وائل مكاحلة يكتب : امرأةٌ واحدةٌ تكفي

في يوم قررت أني لن أتحدث إليك أبدا، سأنساك تماما كما تنسى الطيور أشجارها وبيوتها في الخريف وتهاجر، لا.. لم أكن طيرا جحودا يوما ولن أكونه.. وقطعا لم تكوني أنتِ شجرة، لكنها تجربة تلحّ عليّ ذاكرتي المنهكة أن أخوضها كي لا أتحطم عند الفراق، ماذا؟.. لمَ الفراق؟!.. ستتعبين كثيرا كي تفهمي أن سوداويتي ليست سوداوية بالمعنى المفهوم، هي فقط بعض من الحدس.. وبعض من خبرة لا تخيب في كيفية انتهاء القصص التي تبدأ مشتعلة عند قطبيّ الرواية، ثم لا تعود كذلك..

مرّت الساعة الأولى بسلام، أحسست ببداية أعراض الفقد.. زغللة في العينين مع ألم في الصدغ الأيسر، تتشابه أعراض الفقد و أعراض الشقيقة في عالم الطب، لو كان “هالستيد” حيا إلى الآن لذكر هذا في مرجعه، ربما بعض الغثيان كذلك.. لم أعرف من قبل يا “جود” أنك الإدمان في صورة امرأة، فاتنة مثلك لا بد أن يجسدها الشر كما تنتحل شخصيتها الزهور والفراشات والأيائل، الإدمان مثلك تماما.. فهو المتعة المطلقة.. والشر المطلق، كذا قلت في نفسي !!

الساعة الثانية ثقيلة الوطء، لا شك أن الغثيان يزداد.. بصري مضطرب تماما بحيث أصبحت زغللة العيون شيئا حميدا مقارنة بهذا، لم أعرف أن التخلص منك – أو أن التظاهر بأني أتخلص منك ِ- ثقيل على الروح إلى هذا الحد، أرجو ألا تكون أمك قد زارت أحد أولياء “شمهورش” مع قطعة من “أتري” ليصنع لي حجاب الربط، أيّة حماة في الدنيا مستعدة لأن تفعل أضعاف هذا لزوج ابنتها، عموما هذا احتمال واهٍ جدا لأننا لم نتزوج بعد..!

الساعة الثالثة.. أردت التخلص من صوت الضمير اليقظ في داخلي، فتحت المذياع لينساب صوت “البيتلز” الحزين في أغنية قديمة قِدم “التشارلستون” ذاته، أغنية حرّيفة لها لون القميص المشجّر ومذاق الـ”أولد سبايس” بعد الحلاقة، تمددت رافعا قدميّ على وسادة وُجدت هناك كي يتساوى منسوبا الدم والدموع في شراييني، ثم بدأت أدندن مع هذه الخنافس البشرية..

“لا تبالي يا جود
خذي الأغنية الحزينة
واتركيها في قلبك
لا تخافي إذا خرجت مختلفة
ذاك اللحن في داخلك جعلها أجمل”..

لتلك الأغنية كيان محسوس.. بدأت أشعر بقشعريرة تجتاح حصوني لتسقطها ثغرا ثغرا، كم أحتاج نُصرة كفيكِ!!.. قال قائل أنكِ ستكونين جيشي الوحيد، وقال آخر أنهم الجروح وأنت الضّماد، فيما انبرى الثالث يؤكد أنكِ حصان طروادة الذي سأُدخله حصوني ليُنهي أمري تماما، من أجل عدوٍ لا يرحم..

“حين يتغلغل اللحن بداخلك
سيكون مثلكِ.. أجمل
فإذا شعرت بالألم يا جود توقفي
لا تحملي العالم كله عل كتفيكِ
الحمقى فقط من أرادوا الظهور بمظهر الرائعين
لعبوا أدوارا أخرى.. فأضحى عالمهم باردا”..

كم كنت أحمقا حين أحببتك، الحب لا يصنع الحمقى مباشرة.. لكنه يصِم أرواحنا بهشاشة قميئة لا تلبث أن تتحول مع الوقت إلى غباء مطلق، أردت أن أحمل عنكِ بعض الألم.. لم أتخيل أن في هذا الألم مقتلي، لم أجد بعد من يضحّون بأرواحهم من أجل الآخرين.. بل يضحّون بأرواحهم من أجل فكرة، ثمة إدراك في دواخلنا يقول أن عمر الفكرة أطول من أعمار بني الإنس، قبلت الأمر كثيرا حين تخيلت عينيكِ فكرة.. وشفتيكِ فكرة.. ودموعكِ فكرة، حتى ابتسامتكِ التي لطالما تمنيت ألا تستحيل جهامة أقنعت نفسي – كُرها – أنها فكرة، فكرة لا بد أن تعيش معي لتحييني لو رحلتِ أنتِ..

“هيا يا جود
لا تتوقفي
أتركيها في قلبك لتصبح أجمل
هيا ابدأي.. لا تنتظري أحدا
في لحظة ما ستنجحين وحدك
يوما ما ستنجحين
من دوني
وحدك”..!

ليس هذا حجاب ربط، ولا أعتقد أن كل أولياء “الأتر” بقادرين على فهم ما يجري، هي لحظة إدراك شخصي تلفّنا حين تعجز كل نواميس الكون عن الشرح..

وحين اختفت صورتكِ عن صفحة الماء حيث أراها كل يوم.. هززت هدأة الماء بيديّ، نبشت الحصى والرمال الراكدة، شيء ما يخبرني أنك كنت شعاعا من خيال.. طيف صنعته من حنيني وقلمي، ولع قادني إلى الأفق البعيد.. إلى حيث تقبع مثيلاتك في انتظار قصيدة لا تصف ربع جمالهن ولا عشر أنوثتهن..

وأنا يا “جود” ما أردت الوصول إلى روضة الجميلات، إن هي إلا امرأة واحدة تكفي لتملأ ألف كتاب..
بألف رواية..
وألف قصيدة!!

 

 

 

 

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى