من لاجئ فلسطيني إلى لاجئ سوري: لابد أن تشرق شمس الحرية
المهندس علي أبو صعيليك
يكتب …
البرد لا يعترف بالفقراء، ولا باللاجئين ولا بشيء، بل يحتاج للدفىء لكي يكسر جموده، ليس مجرد موقد حطب أو مدفأة كهربائية من يكسر هذا الجمود، بل “الإنسانية” هي الوقود الحقيقي الذي يفعل ذلك بل وإن مفعولها أكثر من ذلك، وبدونها لا تستقيم الحياة وينتصر البرد وأشياء أخرى.
على مدار خمسة وسبعون عاماً عرف العرب والكثير من شعوب المعمورة عن معاناة الشعب الفلسطيني الذي أصبح بين ليلة وضحاها لاجىء في وطنه ودول الجوار بسبب الإحتلال الصهيوني المدعوم من كل القوى الإمبريالية القذره، وعاش في الخيم والمخيمات أيام وأشهر وسنوات، حتى أصبحت المخيمات جزء من هويته وتطورت من خيم إلى بيوت وتفاصيل كثيرة صنعها من رحم المعاناة، وكل ذلك لم يكسر في داخله الثقة بحتمية العودة إلى فلسطين محررة من الإحتلال.
لم يكن البرد رحيماً بأطفال الفلسطينيين في المخيمات، وقد روى لي والداي تفاصيل يقشعر لها البدن عن رحلة اللجوء من فلسطين إلى الأردن في تلك الأيام، وفي داخل الأردن كان أهلي وأقاربي مضطرين للتنقل من جنوب عمان في مخيم الطالبيه وزيزيا ومحيط المطار إلى مناطق الأغوار الدافئة بسبب المطر والريح والثلج، وقد أسموها في ذلك الحين “رحلة الشتاء والصيف”.
لم تتوفر لهم الكثير من الحلول لمواجهة الشتاء القاسي، فصراع الخيمة مع المطر والريح والثلج صراع غير عادل منتهي بهزيمة الخيمة الهشة قبل أن يبدأ، فكان الحل الوحيد الذي يقرره الكبار هو الهجرة مشياً على الأقدام وأيضا على الدواب المتاحة إلى دفىء مناطق الأغوار وهناك البرد مهزوم دائماً حتى اليوم، ويبدأ نبض الحياة يتجدد في عروقهم حتى ينتهي الشتاء، وبعد عدة أشهر تبدأ رحلة العودة مجدداً إلى زيزيا وقرب المطار بحثاً عن أمل جديد في الحياة، كل ذلك والقلب والعقل والأمل كلهم متعلقين ب”العودة إلى فلسطين”، حتى أنهم العديد من المولودين في تلك المرحلة أسمائهم “عودة”.
وتتلاقى الكثير من تفاصيل معاناة اللاجئ الفلسطيني مع معاناة أشقاءهم السوريين، مع وجود فارق أن نكبة فلسطين كانت من إحتلال عصابات اليهود، بينما نكبة سوريا أنها بين الأخوة في الدم والتاريخ أبناء الوطن الواحد! “وظلم ذوي القربى،،، أشد مضاضة على المرء من الحسام المهند”
ويستمر الأطفال السوريين في المخيمات بدفع أكبر قدر من فاتورة الحرب، ضياع بهجة طفولتهم التي لن تعود أبداً، وهذه المعاناة تقتل الطفولة بمعنى الكلمة، بل إن الأطفال في المخيمات يولدون مباشرة فتيان وفتيات بلا طفولة بالمعنى الحرفي، فمن شاهد فيديوهات لبعض الأطفال السوريين وهم يتحدثون عن جحيم البرد في المخيمات يعلم جيداً أنهم لا يعيشون مرحلة الطفولة أبداً.
الطفلة السورية التي نقلت في أقل من دقيقتين معاناتها وأسرتها مع البرد بعد رحيل والدها، ولأنها صادقة وبريئة جداً فقد وصلت رسالتها بدون حواجز ونقاط تفتيش إلى عمق قلوب من لازالت فيهم بقايا من الإنسانية، لاشك أن بعضنا قد بكى حالها وهذا أحد دلائل على بقايا الإنسانية في داخلنا، ولا أعتقد أن بروفيسور في جامعة هارفارد تستطيع أن توصل رسالتها لطلابها كما فعلت تلك الملاك السورية البريء.
تعلمنا في طفولتنا المزعومة في مخيمات اللجوء الفلسطيني أن الإبداع في كثير من الآحيان يولد من رحم المعاناة، وهذا ما قد يكون لهؤلاء الفتية والفتيات في مخيمات اللجوء السوري، والأمنيات بأن تكون هذه المعاناة مصدر إلهام لصناعة مستقبل جديد في سوريا، التي ورغم صعوبة ما تمر به إلا أنها وطن يشهد له تاريخه وحضارته بأن أبناءه وبناته يستطيعون في مرحلة ما تجاوز الآلم وصناعة المستقبل وبناءه من جديد كما فعل أجدادهم.
ولا يمكن الكتابة عن معاناة اللاجئين وتجاهل المسببين الحقيقيين لمعاناة الشعوب المقهورة ومصادر الفتنة فيها، الدول الإمبريالية التي جعلت مفهوم الرأسمالية يمسح الإنسانية على الأقل من قلوب شعوبهم، بحيث أصبحت دول عميقة في التاريخ بحجم سوريا وفلسطين والعراق واليمن وغيرها من الدول العربية المنكوبة مجرد مصدراً للثروات لهم حتى لو سالت شلالات الدم كما حدث فعلاً ولازال الجرح ينزف.
لا شيء يستقيم بدون صفة “الإنسانية” ومن فقدها فقدْ فَقَدَ الكثير، ولا أشك للحظة أن فكرة الديموقراطية التي روجت لها الدول الإمبريالية لم تكن إلا أداة لتحقيق أهداف استعمارية، فالديمواقرطية اكبر كذبه أنتجتها أسواق الغرب وصدرتها لأسواق الشرق ولاقت لها زبائن مؤمنين بها أكبر من منتجيها المخادعين!