نادية إبراهيم نوري تكتب : بين الخوف والحذر

بينما كنت جالسة في شرفة الفندق المطلّة على ضفاف النيل، خلال رحلة داخلية، لفت نظري مجموعة من الشباب يتسلقون سلّمًا قديمًا شبه متهالك، طويلًا جدًا ويفتقر إلى أي نوع من الأسوار. كانوا يحاولون النزول إلى النهر، ولا أدري إن كانوا ينوون السباحة أم التقاط الصور، فالمكان خلاب يأسر الأنظار، تتخلله مرتفعات وسهول، خضرة ومراكب شراعية تشقّ سكون الماء.

ما شدّ انتباهي أحد أولئك الشباب، كان متشبثًا بصديقه بقوة، حتى خُيّل لي في البداية أنه فاقد البصر، لكنني ما لبثت أن أدركت أنه كان خائفًا، فيما أصرّ رفاقه على أن يرافقهم في النزول إلى النهر.

حمل لي هذا المشهد معانٍ كثيرة؛ أولها أن الرفاق أرادوا أن يستمتعوا جميعًا، وكان بإمكانهم قضاء وقت ممتع دون رفيقهم الخائف، لكنهم أصرّوا على مشاركته، ربما بدافع المحبة، وربما رغبة في مساعدته على التحرر من خوفه.

الملاحظة الثانية أن جميع هؤلاء الشباب في عمر متقارب، لكن فيهم الجَسور وفيهم الجَبان! وأظن أن هذا يرجع إلى التربية؛ فهناك من يربّي أبناءه على الشجاعة والاعتماد على النفس، وهناك من يفرط في حبّه وحرصه، فيُخرج جيلًا هشًا ضعيفًا يعتمد على الآخرين.

الحذر محمود إذا كان في مكانه، لكنه قد يتحوّل إلى جبن إن تجاوز الحد.

ولم تمضِ سوى دقائق حتى شاهدت طفلين، أحدهما في العاشرة تقريبًا والآخر في السادسة، كما بدا لي. كانا يحاولان النزول إلى النهر، وكان الأكبر مصرًّا على إقناع الصغير بمرافقته، لكن الصغير رفض بكل ثبات، رغم كل المحاولات. وفي النهاية استسلم الأكبر وعاد الاثنان أدراجهما. أعجبني موقف الطفل الصغير، ففيه تتجلى حكمة تفوق سنه، فقد تربى على الحذر، وهو لا يزال صغيرًا، والمخاطرة في مثل هذا السن، خاصة في ساعة مبكرة من الفجر والمكان خالٍ من المارة، قد تكون عواقبها وخيمة.

من الجميل أن يحاول الإنسان استكشاف محيطه والتمتع بنِعَم الله، لكن لا بد من فهم إمكانياته ومدى قدرته، ومراعاة المخاطر التي قد تواجهه. فلياقة الشاب تختلف عن لياقة المسن، ومقدرة الطفل تختلف عن مقدرة الناضج.

تذكرت موقفًا لرجل سبعيني، كان يحافظ على رشاقته ويمارس بعض التمارين الخفيفة. وفي أمسية عائلية، دار الحديث حول الرياضة وأهميتها، فتسابق أحفاده في استعراض مهاراتهم ولياقتهم، وجميعهم تحت العشرين. تحمّس الجد، وراح يستعرض ماضيه الرياضي ويتباهى بإمكاناته، ناسياً آثار التقدّم في السن من آلام المفاصل وأسفل الظهر وضعف العضلات، لينتهي به الأمر يقضي ليلته بين المراهم والمسكنات.

وهنا تحضرني الآية الكريمة:
“ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”
(البقرة: 195)

علينا أن نميز بين الشجاعة والتهوّر، وبين الحذر والاستسلام للخوف. فـأجمل ما في الإنسان هو الاعتدال والموازنة، من أجل بناء جيل يملك الشجاعة والإقدام.

وعلى الجانب الآخر، تذكّرت شابة في ريعان شبابها، كانت تعاني من فوبيا البحار والأنهار، بسبب حادثة غرق تعرّضت لها في طفولتها. كبرت معها هذه الذكرى المؤلمة، ورفضت منذ ذلك الحين أيّ رحلة بحرية أو نهرية، محرومة بذلك من متعة السفر، وحرمت أسرتها أيضًا. إلى أن جاء اليوم الذي أقنعها فيه زوجها بخوض رحلة نهرية، فوافقت. وكم كانت سعادتها حين تغلبت على عقدتها، وتحررت من خوفها، وعاشت لحظات من السعادة والمتعة، والتقطت أجمل الصور، وندمت على كل مرة أضاعت فيها هذه الفرصة. بل إنها قررت أن تتعلم السباحة.

وصدق الشاعر أبو القاسم الشابي حين قال:

ومن يتهيب صعود الجبال
يعِش أبدَ الدهرِ بين الحُفَر

علينا أن نواجه مخاوفنا، لا أن نستسلم لها، مع توخي الحذر من أجل سلامتنا. فالجمال يحيط بنا، ونِعَم الله لا تُعدّ ولا تُحصى، وقد خُلقت من أجلنا. وما علينا إلا أن نتأمل في ملكوته، ونشكره على فضله

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى