الهجرة المناخية الداخلية في الأردن: تحذير يتكرر وواقع يتفاقم

كتب أ.د. محمد الفرجات

لطالما حذرت، في مقالاتي ومداخلاتي ولقاءاتي ومحاضراتي ومنذ سنوات، من ظاهرة تتسلل بهدوء إلى نسيج مجتمعنا الأردني، لكنها تنذر بكارثة اقتصادية واجتماعية وأمنية وبيئية إذا ما استمرت دون تدخل عاجل: إنها الهجرة الداخلية الناتجة عن التغير المناخي. هذه الهجرة لا تحدث بسبب حرب أو صراع مسلح، بل بفعل شح الماء، وتدهور التربة، وتراجع إنتاجية المحاصيل، وانخفاض معدلات الهطل المطري، وهي نتائج مباشرة للاحترار العالمي وتغير المناخ، الذي بدأت آثاره تضرب الأردن في العمق.

من الريف إلى المدينة… هجرة قسرية لا خيار فيها

مربي المواشي في البوادي، والفلاحون في الأرياف، وأصحاب البساتين في القرى، كلهم يواجهون تحديًا وجوديًا اليوم: أراضيهم لم تعد تنتج كما في السابق، الآبار تجف، والمراعي تضمحل، والماء إن وجد فبتكلفة لا تحتمل. أمام هذا الواقع، يضطر هؤلاء إلى ترك موائلهم الأصلية والانتقال إلى المدن بحثًا عن فرص عمل، حتى وإن كانت مؤقتة أو متدنية الأجر كوظائف الحراسة، أو قيادة سيارات الأجرة، أو العمل في ورشات بناء، أو بيع الخضار على الأرصفة.

وهكذا، تُهجر الأرض، وتتقلص الزراعة وتربية المواشي، ويتأثر الأمن الغذائي الوطني مباشرة، بينما تتكدس المدن بسكان جدد في أحياء مكتظة وبنى تحتية منهكة، ويزيد الضغط على الخدمات وفرص العمل، فترتفع الأسعار، وتتراجع جودة الحياة، وتتسع الفجوة بين الريف والمدينة.

هذه ليست هجرة طبيعية… بل أزمة مناخية واقتصادية

ما نشهده ليس مجرد “تحضّر” طبيعي أو انتقال لأسباب تنموية، بل هو نزوح قسري مناخي اقتصادي. لا يغادر الفلاح أرضه لأنه يريد حياة المدن، بل لأنه لم يعد قادرًا على البقاء فيها. وهو ما يجب أن يُصنف ضمن مظلة “العدالة المناخية”، إذ يدفع الأفقر ثمن أزمة لم يصنعها.

لقد أشرنا بوضوح إلى هذا الاتجاه في مقالنا المعنون:

“سيدي جلالة الملك: هذا حل تحديات العطش والفقر والبطالة والطاقة والأمن الغذائي في المملكة، ولكي نستمر أيضًا”،

و”الأردن: إستراتيجية عشرية نحو قطاعات تنموية بالحد الأدنى من المياه… حتى نبقى!”

وقد بينّا فيهما أن:

الزراعة تستهلك نصف مواردنا المائية، لكنها لا تسهم إلا بنحو 5% من الناتج المحلي.

المياه الجوفية تنضب أو تزداد ملوحة، والموسم المطري يضعف ويقصر زمنًا، ويبتعد مكانيًا عن السدود.

المزارع الأردني يخرج من سوق الإنتاج لا لأنه فاشل، بل لأنه محاصر بمناخ متقلب وموارد شحيحة.

النتائج المباشرة لهذه الهجرة المناخية:

1. تفريغ القرى والبوادي من سكانها، وإهمال الأرض، وزيادة التصحر.

2. انهيار الأنشطة الزراعية والرعوية، وتقلص مساهمتها في الأمن الغذائي.

3. ازدياد البطالة في المدن، خصوصًا مع عدم توافق المهارات الريفية مع سوق العمل الحضري.

4. ضغط هائل على البنية التحتية الحضرية: مدارس، مياه، كهرباء، سكن، مواصلات، وصحة.

5. ارتفاع أسعار الغذاء نتيجة تراجع الإنتاج المحلي وزيادة الاعتماد على الاستيراد.

6. تنامي مظاهر الفقر الحضري والعنف المجتمعي، وارتفاع نسب الجريمة.

ما العمل؟ تشخيص دقيق يستوجب خطة جذرية

التعامل مع هذه الهجرة لا يكون عبر برامج دعم نقدي مؤقتة، ولا من خلال ترحيل المشكلة عبر إنشاء مخيمات أو مشاريع سطحية، بل عبر رؤية وطنية شمولية تستبق التدهور القادم، وترمم ما تصدع.

أولًا: وقف النزيف السكاني من الريف عبر الدعم المستهدف

دعم مربي المواشي بالأعلاف وتوفير المياه بأسعار مدعومة.

توفير التأمين الزراعي، وإعادة هيكلة قروض المزارعين.

تحفيز زراعة المحاصيل المقاومة للجفاف وتكنولوجيا الزراعة الذكية.

إطلاق برنامج وطني لإعادة تأهيل المراعي والتربة في البوادي.

ثانيًا: بناء قرى إنتاجية ذكية في البوادي (كما اقترحنا في مقالاتنا)

تعتمد على الطاقة الشمسية والمياه الجوفية غير المستغلة.

تدمج بين الزراعة الرأسية، والصناعات الغذائية، وتربية المواشي.

توفر فرص عمل محلية وكرامة سكنية، وتعيد الأمل لسكانها.

تعيد توزيع الكثافة السكانية وتخفف ضغط المدن.

ثالثًا: سياسات اقتصادية وإدارية داعمة

تطوير شبكة مواصلات جماعية منخفضة الكلفة تربط هذه القرى بالمدن.

تمويل القرى من صناديق الدولة والصناديق السيادية والتبرعات الدولية.

تقديم تسهيلات ضريبية واستثمارية للمشاريع المنتجة فيها.

رابعًا: الوعي والتعليم والتأهيل

إعداد برامج تدريبية لأبناء القرى والبوادي على المهارات الزراعية والصناعية الحديثة.

تعزيز ثقافة “البقاء في الأرض والعمل فيها” ضمن مناهج التعليم.

نشر الوعي المناخي والبيئي وأثره على المستقبل الوطني.

خاتمة: من لا يرى الأزمة اليوم، سيدفع ثمنها غدًا

الهجرة المناخية الداخلية ليست مجرد ظاهرة طبيعية، بل ناقوس خطر ينبهنا إلى أن منظومتنا البيئية والاقتصادية بحاجة لإعادة ضبط. وكل تأخير في التدخل سيجعل الحل أغلى وأكثر تعقيدًا.

نحن بحاجة لقرارات جريئة، تضمن بقاء الناس في أراضيهم لا بالمنع القسري، بل بخلق بيئة حياتية منتجة ومستقرة. حين نوفر سبل الحياة الكريمة في البادية والقرية، فإننا نحمي الأمن الغذائي، ونصون النسيج المجتمعي، ونواجه آثار التغير المناخي بذكاء وشجاعة.

فالمدن لا تستطيع حمل الوطن كله… ولا الوطن يبقى بلا أرضه وأهله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى