الصناعات الناعمة في الأردن: الأردنيون يقطفون ثمار رؤية ولي العهد خلال العقد القادم

كتب أ.د. محمد الفرجات
في السنوات الأخيرة، بدأنا نشهد في الأردن تحوّلاً هادئاً لكن عميقاً في طبيعة الاقتصاد والفرص المتاحة للشباب. هذا التحول لا يقوده مدراء تقليديون، بل شابٌ يتقدم الصفوف بتواضع وثقة، هو سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد. ومن اللافت أن المسار الذي يرعاه لا يعتمد على الصناعات التقليدية، بل على الصناعات الناعمة: البرمجيات، الابتكار، التكنولوجيا، التصنيع الرقمي، والريادة.
لكن، هل هذا المسار كفيل بتحسين الاقتصاد وتوفير فرص العمل؟ وهل فعلاً بدأ الأردنيون يلمسون الفرق؟ وهل هناك نضج مؤسسي يكفي لتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس على امتداد محافظات المملكة؟
ما هي الصناعات الناعمة؟
الصناعات الناعمة هي القطاعات التي تعتمد على المعرفة والمهارات الرقمية والإبداعية بدلًا من الموارد الطبيعية الثقيلة. وتشمل البرمجة وتطوير البرمجيات، التصميم الإلكتروني والتصنيع الذكي، الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، الإعلام الرقمي، والأعمال الريادية القائمة على الابتكار.
في هذه الصناعات، العقل البشري هو رأس المال، وسوقها عالمي، لا يحتاج إلى موانئ أو استثمارات ضخمة. ما يحتاجه فقط هو تمكين بشري، بنية رقمية، وسياسات ذكية.
ولي العهد يبني بيئة تمكينية
ولي العهد لم يكتفِ بالرؤية، بل أسس منظومة متكاملة تدفع الشباب نحو الابتكار والعمل المنتج. أبرز مكونات هذه المنظومة:
مصنع الأفكار – TechWorks: مركز ابتكار وتصنيع رقمي يُمكّن الشباب من تحويل الأفكار إلى نماذج أولية باستخدام أحدث تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، وأدوات تصنيع مفتوحة المصدر. استفاد منه الآلاف حتى اليوم، وأنتجت داخله مشاريع طلابية تحولت لشركات ناشئة حقيقية.
جامعة الحسين التقنية – HTU: نموذج تعليمي ثوري يدمج الجانب النظري مع التطبيقي، ويخضع الطالب فيه لتدريب عملي فعلي في شركات تكنولوجية. أكثر من 80% من الخريجين يجدون فرص عمل خلال أشهر من التخرج، ما يجعلها قصة نجاح أردنية مميزة.
مبادرة “مليون مبرمج أردني”: بالشراكة مع كبرى المنصات العالمية، تفتح هذه المبادرة الأبواب أمام الشباب والشابات لتعلم لغات البرمجة وتطوير التطبيقات، والعمل عن بعد مع شركات عالمية.
مشروع طائرات الدرون الأردنية: في تصريح حديث، أكد ولي العهد أن الأردن بصدد تطوير وإنتاج مسيرات بتكنولوجيا محلية، وهي خطوة جريئة نحو استقلال تقني وأمن صناعي ودفاعي، وقد بدأ العمل في البنية التحتية لذلك.
المنصات الرقمية الجديدة: أشار سموه كذلك إلى إدخال تطبيقات جديدة مفيدة في القطاع العام، هدفها تحسين الكفاءة وتحقيق الشفافية، وربط المواطن مباشرة بالخدمات الذكية.
هل بدأ التغيير فعلاً؟
المؤشرات الأولية مشجعة:
قصص نجاح خرّجها “مصنع الأفكار” تحوّلت إلى منتجات تباع في الأسواق المحلية.
العديد من خريجي HTU يعملون الآن في شركات تكنولوجية إقليمية ودولية.
شباب من المحافظات والبادية ومخيمات اللاجئين بدأوا التدريب البرمجي والعمل الحر على منصات عالمية.
الشركات الناشئة في مجال الواقع الافتراضي، الذكاء الاصطناعي، وتطبيقات الزراعة الذكية بدأت بالظهور.
دخول طائرات مسيّرة أردنية الصنع مرحلة التطوير يشير إلى توسع الصناعات الناعمة نحو مجالات دفاعية وتقنية عالية.
كل هذا يؤشر إلى أن التحول ليس فقط على الورق، بل بدأ ينعكس على الأرض، وإن كان لا يزال في بداياته.
التحديات أمام الرؤية
رغم هذا الزخم، لا تزال هناك عقبات جدية تعيق توسع الصناعات الناعمة، منها:
نظام التعليم العام الجامد، الذي لا يزال يحكمه الحفظ والتلقين.
محدودية التمويل للمشاريع الريادية خارج العاصمة.
بيروقراطية مزمنة تعطل الأفكار بدلاً من تمكينها.
نقص في القوانين والتشريعات المواكبة للاقتصاد الرقمي.
ضعف منظومة الملكية الفكرية وحماية الابتكار.
كما أن التحوّل الحقيقي يتطلب تغييراً في عقلية المؤسسات، وليس فقط الشباب.
فرصة تاريخية للأردن:
العالم يتحول بسرعة نحو الاقتصاد الرقمي، والمنافسة مفتوحة لكل من يمتلك الفكرة والمهارة. في هذا السياق، تمثل الصناعات الناعمة فرصة نادرة للأردن:
نمو سريع، تكاليف تشغيلية منخفضة.
قابلية للتصدير الرقمي دون حدود.
تمكين المرأة والشباب وأصحاب الإعاقة.
حلول ذكية للتحديات البيئية والاجتماعية.
تعزيز مكانة الأردن كمركز إقليمي للابتكار.
هذه فرصة الأردن ليصعد دون موارد نفطية، فقط بعقول شبابه.
هل سيجني الأردنيون الثمار؟
نعم، إن أحسنّا إدارة التحول ووسعنا القاعدة لتشمل المحافظات والمناطق الأقل حظاً. الصناعات الناعمة قد لا تُحدث ضجيجًا كالمصانع، لكنها تبني المستقبل بصمت. ومع قيادة شابة تؤمن بالتمكين والريادة، ومع شراكة مجتمعية ومؤسسية حقيقية، يمكن للأردن أن يتحول من مستهلك للتكنولوجيا إلى منتج ومصدّر لها.
الكرة الآن في ملعب المؤسسات التنفيذية، والقطاع الخاص، والمجتمع المحلي. فإما أن نلتقط هذه الفرصة التاريخية، أو نتركها تمر كفرص ضاعت من قبل، ونعض أصابع الندم حين يكون الأوان قد فات.