كيف خذلت روسيا ايران قبل حربها الاخيرة ؟

مهدي مبارك عبد الله
لا شك بان روسيا الاتحادية اليوم كقوة صاعدة أو عائدة في الساحة الدولية تتمتع بقوة عالمية ونفوذ واسع وفي ظل التنافس المحموم مع الغرب اتخذت موسكو عبر تاريخها الطويل نهجًا براغماتيًا وواقعيا في تطبيق سياستها الخارجية يقوم على تغلّيب المصلحة الذاتية على أي روابط او التزامات أيديولوجية أو تحالفية قائمة مما يعني التركيز على النتائج العملية بدلًا من الولاءات الدائمة وبما يلخص مبدأ ونهج ( لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة ) وهكذا كانت موسكو ولا زالت تنظر لتحالفاتها بأنها مصلحة مؤقتة أكثر منها التزام أخلاقي طويل الأمد وهو ما جعل العديد من حلفائها التقليديين مثل إيران وسوريا وكوريا الشمالية والجزائر وفنزويلا وغيرها يشعرون بالإحباط والخذلان في الكثير من المواقف واللحظات الحرجة غبر التاريخ القديم والحديث
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوصف بين اقرانه بانه ساسي براغماتي مستنيرة وليس أيديولوجي متأصل وان سياساته العملية تقوم على المصلحة الذاتية الهادفة إلى تعزيز قوة روسيا حيث لا يتوانى عن تعديل أو إنهاء دعمه لأي حليفٍ جديد او قديم إذا ما تغيرت حسابات الربح والخسارة وهو ما أضفى عليه مقولة صفة ( الصديق حتى منتصف الطريق ) حيث يبدأ بدعم الحلفاء لكن سرعان ما يعود أدراجه ويتركهم لمصيرهم متى ما تبين له أن الكلفة تفوق المنفعة وعليه رصد نمط التعامل البراغماتي لروسيا مع عدد من شركائها وحلفائها التقليديين حول العالم ف عدة صور ومواقف نقدم بعضها في تحليل موجز يبين جزء من سلوك موسكو تجاه بعض الدول من بينها ايران التي كانت تعتبر شريكً استراتيجي هام لموسكو خاصة في الصراع السوري لكن العلاقة بينهما في الباطن كانت تحكمها المصلحة البحتة وليس العاطفة البريئة فالدعم الروسي لإيران اتسم على المدى البعيد بالحذر الشديد رغم التعاون المتواصل ضد توسع النفوذ الغربي في منطقة الشرق الأوسط حيث ظلت روسيا تعارض تزويد إيران بأحدث المنظومات العسكرية
على سبيل المثال امتنعت موسكو في عام 2019 عن بيع طهران منظومة الدفاع الجوي المتقدمة إس–400 بذريعة أن ذلك سيسبب توترات في الشرق الأوسط وهو ما اثار أثار استياء الإيرانيين في حينه والحقيقة غير المعلنة ان روسيا كانت تحرص من وراء هذا التوجه العسكري الى عدم استفزاز إسرائيل أو الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة فكم مرة تغاضت موسكو عن ضربات إسرائيلية متكررة على أهداف إيرانية في سورية ولم تصطدم بتل أبيب على الارض او في الجو مما أثار تساؤلات متعددة حول حدود التزامها
هذا السلوك يؤكد يأن أولوية موسكو هي مصالحها المباشرة وفي السنوات الأخيرة ورغم حاجة روسيا الاستراتيجية لإيران خاصة للحصول على ذخائر والمسيرات المتطورة خلال حرب أوكرانيا واستعراض التقارب ضد واشنطن بقي الدعم الروسي مقنن وحذر وفي اقل المستويات المطلوبة مع حرص موسكو على تجنب التورط المفرط والالتزام بالعقوبات الدولية على طهران وعدم تزودها بأسلحة متطورة علنًا
في المقابل عام 2016 وافقت موسكو على تزويد إيران بمنظومة أقل تطورًا هي إس–300 بعد رفع العقوبات الأممية وبعدما كانت قد جمدت عقد إس–300 سابقًا وذلك امتثالًا لعقوبات الأمم المتحدة عام 2010 وحتى أنها لم تستخدم حق النقض لعرقلة قرار مجلس الأمن رقم 1929 الذي شدد حظر التسليح على إيران ما أغضب طهران آنذاك حيث تأكد بصورة اوضح تغليب موسكو للشرعية الدولية وعلاقاتها الأوسع على حساب حليفتها لهذا كان يقال دائما ان العلاقة الروسية – الإيرانية هي مجرد شراكة مصلحية آنية وتكتيك مرن وليست مخططات وبرامج عمل استراتيجية ومن المهم الإشارة هنا إلى أن موسكو لم تكن مستعدة لان تضحي بعلاقاتها وموقفها الدولي عبر تقديم دعم كبير لطهران يتجاوز الخطوط الدولية الحمراء وهذه السياسة جعلت علاقات روسيا مع ايران مرنة وقابلة للتغيير السريع وفي صورة اقرب إلى شراكات تكتيكية عابرة تعتمد على تحالف المصلحة أكثر من تحالف المبدأ
سلوك موسكو تجاه ايران وغيرها من الدول بني على أسس المصلحة والمحافظة على التوازنات وان مفهوم الولاء الروسي للحلفاء ظل مشروط بحسابات الكلفة والمنفعة وتقديم الدعم المحدود لتفادي سقوط الحليف فقط ولكن دون اي التزامات مطلقة قد تورط روسيا في صراع أوسع أو يضر بمصالحها مع قوى دولية أكبر
من أبرز الأمثلة الحديثة على البراغماتية الروسية موقف موسكو من تسليح إيران فعلى الرغم من الشراكة السياسية والعسكرية الوثيقة نسبيًا بينهما في ملفات كبرى كالحرب السورية امتنعت روسيا مرارًا عن تزويد إيران بأسلحة دفاع جوي متطورة بخلاف سياستها مع دول أخرى كتركيا ومصر حليفتي الغرب ما يمكن تفسير هذا الموقف عبر عدة اعتبارات واقعية اتبعتها موسكو وفق سياسات ذرائعية لم تعد مقنعة من قبل دولة تسعى الى العالمية والسبق على النفوذ والمكانة من ضمهنا مثلا
الادعاء بالرغبة في تجنب تأجيج التوتر الإقليمي حيث تراعي روسيا حساسية التوازنات في الشرق الأوسط عند بيع أنظمة دفاع جوي متقدمة لإيران مثل منظومة “إس–400 تريومف بعيدة المدى بانه سينظر إليه من قبل خصوم طهران كالولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج كتهديد كبير لذا رفضت موسكو عام 2019 طلبًا إيرانيًا للحصول على إس–400 خشية أن يؤدي ذلك إلى تصعيد حدة التوتر في الشرق الأوسط بحسب مصادر دبلوماسية روسية وبكلمات أخرى يمكن القول ان روسيا اختارت تفادي خطوة قد تشعل سباق تسلح إقليمي أو استفزازًا مباشرًا لواشنطن وتل أبيب وهو ما يتجاوز ما تعتبره موسكو مقبولًا ضمن سياستها الحذرة في المنطقة
كما تنظر روسيا بتدقيق بالغ في حساسية العلاقات مع إسرائيل والغرب ورغم خلافها الظاهري العميق حرصت روسيا خلال العقد الأخير على إبقاء خطوط تواصل وتفاهم مع إسرائيل خاصة في سوريا حيث كانت تتواجد قوات البلدين وقد نقلت إسرائيل مرارًا قلقها من احتمال تسليم دفاعات جوية متقدمة لإيران أو حتى لسوريا لأن ذلك قد يحد من حرية حركة سلاح الجو الإسرائيلي في المنطقة حيث أخذت موسكو هذه الهواجس بالاعتبار حفاظًا على تفاهماتها الضمنية مع تل أبيب
اما الاعتبارات القانونية والدولية فقد قيدت روسيا نفسها لفترة طويلة بالقيود الدولية المفروضة على إيران ومنذ 2007 كانت هناك صفقة لتزويد إيران بصواريخ إس –300 إلا أن موسكو تراجعت عام 2010 عن إتمام العقد بعد صدور قرار أممي يفرض عقوبات على طهران ورغم أن إيران احتجت ورفعت قضية ضد روسيا مطالبةً بتعويضات بقي الكرملين ملتزم بتلك العقوبات حتى أُبرم الاتفاق النووي 2015 ورفع الحظر لاحقًا وقد دل هذا الموقف على أن موسكو راعت المنظومة الدولية عندما كان التعاون مع إيران يهدد مكانتها أو يعرضها لعقوبات أممية كذلك فضلت عدم المخاطرة بتقويض مفاوضاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا حول الملف النووي الإيراني حيث دعمت موسكو المسار الدبلوماسي الذي كلل بالاتفاق النووي وكانت أحد المستفيدين منه برفع الحظر عن بيع بعض الأسلحة التقليدية لإيران بعد عام 2020
في معادلات وحسابات الربح والخسارة والمكاسب تلخص سلوك موسكو مقابل التبعات فيما يخص إيران بأن بيع أسلحة فائقة التقدم لها حاليًا قد يجر عليها خسائر استراتيجية تفوق المكسب المالي الآني خسائر مثل توتير العلاقات مع تل أبيب وإثارة عداء أكبر من واشنطن وحلفائها في الخليج وتصعيد سباق التسلح في منطقة حساسة يوجد لروسيا مصالح متعددة فيها علاقات مع السعودية وإسرائيل من جهة وإيران وسوريا من جهة
هذا التحليل يفسر لماذا بدت موسكو وكأنها تكافئ خصوم إيران ممثل تركيا العضو في الناتو ومصر حليفة واشنطن التقليدية ) بتسليح نوعي بينما تحرم شريكها الإيراني منه إنه منطق المصلحة لا العاطفة الذي يحكم بوصلتها وقد عبر مسؤول إيراني سابق بمرارة عن ذلك بقوله ان إيران قادرة على الدفاع عن نفسها سواء ساعدتنا روسيا أم لا في إشارة إلى عدم اعتماد طهران الكامل على موسكو بعد التجربة العملية وبالمحصلة روسيا كسبت أرباحًا من بيع منظومة إس–400 لتركيا وحافظت على شعرة معاوية مع إسرائيل والغرب بينما أبقت إيران تحت مظلة تسليحية محدودة تضمن استمرار حاجتها إلى موسكو دون تمكينها عسكريًا من تغير توازن القوى او مواجهة الهجمات الاسرائيلية والامريكية الاخيرة بعيدًا عن رغبات روسيا
لفهم تاريخ الخذلان في السياسة الروسية يجدر بنا استعراض بعض أهم المحطات التي تخلى فيها الاتحاد السوفيتي عن حلفائه أو خيب آمالهم رغم علاقات التحالف المعلنة بدءا بأزمة السويس 1956خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ( بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ) ورغم الخطاب السوفيتي العالي النبرة آنذاك لم يقدم الاتحاد السوفيتي دعم حاسم لمصر وفي حرب حزيران/يونيو 1967 في ( حرب الأيام الستة ) وبعد تلقي مصر وسوريا والأردن ضربة قاصمة من إسرائيل غاب الدعم العسكري السوفيتي المباشر تمامًا أثناء القتال ولم يرسل السوفييت أسلحة عاجلة أو قوات بل اكتفوا بالجهود السياسية لوقف الحرب اما في حرب أكتوبر 1973 وعلى الرغم من الإعداد المسبق مع مصر وسوريا كانت المساعدات السوفيتية خلال الحرب محدودة وبطيئة ورغم الجسر الجوي للسلاح الا انه لم يكن كافيًا لتعويض الاستنزاف اليومي في المعدات لدى مصر وسوريا على الجبهات
وفي أزمة الصواريخ في كوبا 1962 بلغ التوتر ذروته بين واشنطن وموسكو عندما نصب السوفييت صواريخ نووية في كوبا حليفهم القريب لكن ما إن واجهت موسكو موقفًا حرجًا مع الولايات المتحدة سحب خروشوف الصواريخ سريعًا في صفقة تسوية مع كينيدي متجاهلًا مصالح هافانا وفي أفغانستان 1989بعد عقد تقريبًا من التدخل السوفيتي لدعم النظام الشيوعي في كابول ضد المتمردين (1979 -1989) قرر الكرملين بقيادة غورباتشوف الانسحاب المفاجئ من أفغانستان وترك حكومة نجيب الله وحيدة في مواجهة المجاهدين المدعومين غربيًا وإقليميًا
اما في اليمن الجنوبي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 1986-1990فقد اعتمد النظام الماركسي في جنوب اليمن بشكل شبه كامل على الدعم السوفيتي لبقائه اقتصاديًا وعسكريًا لكنه وجد نفسه مع نهاية الثمانينات بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتخلي موسكو عن التزاماتها الخارجية يصارع وحيدًا أزماته الداخلية وضغوط الوحدة مع الشمال مما ادى الى انهيار دولة الجنوب واندماجها القسري مع الجمهورية العربية اليمنية عام 1990
إلى جانب الأمثلة أعلاه هناك حالات أخرى عديدة تخلّي فيها غورباتشوف تحديدا عن حلفاء الشرق الأوروبي وتركهم يواجهون شعوبهم الثائرة ففي عام 1989 ودون أي تدخل وافقت موسكو ضمنيا على ضرب العراق 1991 وهو حليف تسليحي لها عبر عدم استعمال الفيتو في مجلس الأمن كما خذلت روسيا صربيا جزئيًا في اتفاقات إنهاء حرب البوسنة 1995 ثم في حرب كوسوفو 1999 حيث لم تتدخل عسكريًا وصولاً إلى أرمينيا 2020-2023 حين اكتفت روسيا بدور المتفرج على خسائر حليفها في ناغورنو كاراباخ وجميع الاحداث السابقة تشير إلى نمط واحد عندما يتعارض دعم الحليف الروسي مع المصلحة العليا لموسكو أو يتجاوز قدراتها الفعلية فإن موسكو تتراجع
امام تلك السياسات الروسية المتقلبة اقليميا ودوليا أدرك كثير من حلفاء الأمس هذه الحقيقة متأخرين وبمرارة بإن تاريخ الاتحاد السوفيتي وروسيا حافل بخيبات الأمل للحلفاء حتى صار ذلك سمة ملازمة لصورة موسكو لدى حلفائها المحتملين على الساحة الدولية الأوسع وقد رسخ هذا السلوك انطباعًا بأن روسيا حليف انتهازي لا يقف إلا حيث يوجد المقابل المباشر هذا الإدراك جعل الكثيرين يتحفظون في الارتهان التام لموسكو والتوجه إلى بناء قدراتهم الذاتية ( منظومة الدفاع الجوي المحلية) والحافظة على قنوات دبلوماسية مفتوحة مع أوروبا والصين وبسبب هذه الصورة السلبية
فأن دولً عديدة خاصة تلك الباحثة عن حماية أو دعم ستتردد في الارتماء كليةً في أحضان روسيا فعندما قاربت أزمة أوكرانيا 2022 على الانفجار مثلاً اختارت دول شرق أوروبا الصغيرة الاستقواء بحلف الناتو والغرب بدل محاولة موازنة موسكو لأنهم يعرفون أن واشنطن وحلفاءها أظهروا تاريخ ثباتً أكبر في نصرة حلفائهم كما في برلين 1948، الكويت 1991 وكوسوفو 1999 الخ مقارنة بموسكو
التاريخ بتفاصيله الدقيقة يحذر كل حليف جديد لموسكو بأن وعودها قد تتبخر سريعا إن اقتضت الظروف والمصالح والمكاسب ذلك وعلى موسكو محاولة طمأنة حلفائها لضمان ولائها في الأحداث القادمة وانها ستجيب لدعمهم والوقوف الى جانبهم إذا كانت روسيا تريد إعادة صياغة صورتها كحليف يمكن الاعتماد عليه وتحقيق نجاحات حاسمة ومشتركة مع حلفائها حتى لا تبقى ذاكرة التاريخ البعيد والقريب تطاردها وتقيّد طموحاتها كقوة عظمى تسغى للعودة بقوة إلى المسرح الدولي
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية