كيف حالت مصالح الصين الخاصة عن دعم ايران ؟

مهدي مبارك عبد الله

على ما يبدو ان إيران دخلت المواجهة مع إسرائيل بسقف طموحات دولية عالي الا انها خرجت منها خائبة ومجبرة على إعادة تقييم تحالفاتها الخارجية وترجمتها إلى دعم عملي فقد بات من الواضح أن ما لديها اليوم هو مجرد شبكة علاقات قائمة على المصالح المؤقتة والتفاهمات الدبلوماسية الاعتيادية ولا علاقة لها بالالتزامات العسكرية أو التحالفات الأمنية التي تضمن وجودها الفعلي وحمايتها الحقيقية بما يشبه ما تتمتع به إسرائيل مع قبل الولايات المتحدة أو بعض الحلفاء الغربيين الاخرين

كما انه وفي ذروة التصعيد بين إيران وإسرائيل وبعدما بلغت التوترات مستوى غير مسبوق من الخطورة وجهت طهران أنظارها شمالاً وتحديدًا نحو بكين وكانت التوقعات الإيرانية آنذاك تشير إلى أن لحظة الدعم الحاسم قد حانت خاصة بعد سنوات من بناء علاقات استراتيجية مع الصين تم تقديمها على الدوام كبديل عن الاصطفاف في الجانب الغربي وكقاعدة لتموضع إيران ضمن توازنات عالمية جديدة ولطالما اعتبرت إيران علاقتها بالصين ركيزة اساسية لتحالف استراتيجي مضاد للغرب حيث راهن صانع القرار في طهران على هذه العلاقات في امكانية كسر العزلة المفروضة على بلاده

ما واجهته طهران على الأرض جاء مختلفًا كليا عن ابسط التوقعات فلا دعم مباشر حصل ولا تحركات إقليمية ولا حتى خطاب سياسي حازم من قبل الحليفَ الصيني المفترض الذي اكتفى بتوجيه دعوات فاترة لخفض التصعيد تكاد توازي تخليا حقيقيا عن حليف كان يظن أن ميزان الردع الدولي قد يعمل لصالحه في اي لحظة اشتباك مباشرة لكن بكين لم تقدم في الواقع أي مساعدة عسكرية ملموسة لطهران ولم يصدر عنها ما يؤشر لعزمها بالدفاع عن مصالحها الاقتصادية الحالية والمستقبلية مع طهران والممثلة بخط الحرير التجاري الذي يعتبر اهم مشاريعها الاقتصادي المستقبلية

السياسات الصينية العليا تجاه الضربات الإسرائيلية والأميركية على إيران بقيت ترسم في الظل واتسمت بالحذر والانضباط حيث اكتفت بكين بنشر تصريحات من بينها بيانات وإدانات واطلاق دعوات للحوار وتبني مواقف سياسية إعلامية وتمنيات معنوية لتجنب التصعيد وضبط النفس وعدم استخدام القوة المفرطة والتشديد على ضرورة احترام السيادة الإيرانية والحفاظ على الاستقرار الإقليمي وهذه المواقف في عمومها تجسد بشكل واضخ خط ونمط السياسة الخارجية الصينية القائمة على عدم التدخل المباشر وتفضيل الوساطات الهادئة وتوازن المصالح مع مختلف الأطراف بما في ذلك واشنطن وتل أبيب والعواصم الخليجية وفي الغالب لا تدخل الصين في غير معاركها الخاصة وحتى في معاركها الذاتية أحياناً لا تنزع نحو التصادم المباشر خلالها

على اثر الهجوم الأميركي المفاجئ على المنشآت النووية الإيرانية اعلنت بكين حينها قلقها البالغ من احتمال خروج الوضع عن السيطرة حيث طالب السفير الصيني لدى الأمم المتحدة فو كونغ بوجوب كبح جماح القوة الامريكية والعمل على تجنب تفاقم الصراع وإضافة الوقود إلى النار وضرورة جمع الأطراف والزام إسرائيل بالوقف الفوري لأطلاق النار لمنع تصعيد الوضع وتجنب امتداد الحرب

هذا الموقف الصيني بكل تفاصيله كان اقرب الى الحياد والانكفاء والابتعاد وقد اظهر بكين بصورة سلبية تجاه دعم شريكتها الاستراتيجية إيران كما بين عدم اهتمامها الجاد بالمنطقة ذات البعد الاستراتيجي المتميز وقد توقع معظم المتابعين والمراقبين عدم دخول الصين العسكري في النزاع بأي شكل مع بقاء تركيز جهودها على تقديم الدعم الاعلامي والدبلوماسي لإيران حتى بعد أن أصبحت واشنطن أكثر تورط في الصراع الإيراني الإسرائيلي باستعمالها احدث القاذفات الاستراتيجية لضرب ثلاث منشئات نووية ايرانية ( نطنز واصفهان وفوردو )

الصين وايران تتمتعان بعلاقات تعاون اقتصادية وعسكرية وامنية متقدمة سواءً في مجالات التدريب العسكري أو عبر توقيعهم اتفاقية شراكة استراتيجية عام 2021 مدتها 25 عام ولا تزال بكين ترى في ايران شريك طبيعي يفوق في المكانة والاهمية إسرائيل وذلك نتيجة احتياطاتها الوفيرة من النفط الخام وعدد سكانها البالغ حوالي 91 مليون نسمة مقارنة بعدد سكان إسرائيل المقدر بـ 9.8 مليون نسمة والأهم من ذلك استخدام إيران كأداة قوية لمواجهة الهيمنة الأميركية المتنامية في المنطقة ومع ذلك تجنبت بكين إدانة إسرائيل مباشرة رغم حفاظها على التحالف الدبلوماسي مع إيران كما اخلت الصين بتعهداتها السابقة بدعم إيران بعد الهجوم الإسرائيلي باعتباره انتهاكا لسيادة إيران وأمنها وسلامة أراضيها لكن بكين في الواقع ظلت ملتزمة بتقديم خطاب عقلاني وأكثر توازن عبر تجنبها إدانة الأعمال العسكرية الإسرائيلية المتكررة ضد ايران

على الجانب الاخر أدانت بكين وبشدة الهجوم الأميركي على المنشآت النووية الإيرانية واعتبرته انتهاك خطير لمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وانه سيؤدي إلى تفاقم حدة التوترات في منطقة الشرق الأوسط وهذا التوجه يعزز ميول بكين اكثر الى فكرة الحياد السلبي والاستثمار في الأزمات وبذلك سقط قناع بكين واصبحت ايران قعلا بلا أي حلفاء من الماضي القريب والبعيد

بعض المحللين الدوليين وجدوا في الانخراط الأميركي المباشر في الصراع الاسرائيلي الايراني مصلحة لبكين المتورطة اصلا في حرب تجارية ممتدة مع واشنطن حيث ان اغراقها اكثر في اوحال ايران يمكن ان يشغلها في فوضى جديدة في الشرق الاوسط تساهم وتمكن الصين من الوصول إلى النفط الإيراني بسهولة وفرض بعض الهيمنة على مضيق هرمز أحد أكثر الطرق اهمية لتدفقات النفط الخام العالمية وهو الجزء الاهم في محور سياسات الصين الاقتصادية الأساسية

التخوفات الامريكية المسبقة من أي خطوة ايرانية لإغلاق مضيق هرمز خاصة بعد موافقة البرلمان الإيراني على قانون ينص على إغلاق المضيق الذي تمر منه نحو 20% من تدفقات النفط والغاز العالمية دفع بوزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو الى الطلب شخصيا من الصين حث إيران على عدم إغلاق المضيق حيث ابلغت بكين ايران ان ذلك سيمثل تصعيداً خطيرا قد يستدعي رداً من امريكا ودول أخرى وهو نفس الخطاب الامريكي الترهيبي الموجه الذي كانت تردده واشنطن لتخويف ايران من عواقب القرار المحتملة

الخطاب الصيني طوال مدة الازمة لم يخرج عن الدبلوماسية الناعمة من حيث إدانة القصف الأميركي ودعم موقف إيران في المؤسسات الدولية كما كانت بكين تعرض وساطتها لحل الأزمة كما فعلت في حرب روسيا وأوكرانيا لكنها لم تسفر عن أي نتيجة وقد شكك مؤسس شركة سينولوجيا الاستشارية آندي روثمان في الوساطة الصينية لعقد اتفاق سلام بين واشنطن وطهران مع استمرار بكين في ثني إيران عن تنفيذ اي انتقام عسكري مباشر بحق واشنطن بذريعة ان ذلك سيزعزع استقرار المنطقة ويضعف الاقتصاد العالمي وهو ما يتعارض بالطبع مع مصلحة الصين الخاصة اولا

رغم ما تملكه الصين من ثقل اقتصادي ودبلوماسي اقليمي وعالمي فإن قدرتها على حل الأزمة الايرانية بشكل مباشر أو لعب دور الوسيط الفاعل بين طهران وواشنطن تبقى محدودة نظراً لتعقيدات الملف الإيراني وتشابك المصالح الإقليمية والدولية فيه بالإضافة إلى غياب الثقة الكاملة من الأطراف الامريكية والغربية في كل النوايا الصينية

بالتدقيق والتتبع لحيثيات الرؤى الصينية نجد ان بكين كانت تلعب على الحبلين كما يقولون فهي ليست طرفاً محايداً بالكامل لكنها أيضاً لم تكن مستعدة للدخول في مخاطرة الانخراط مباشر في الحرب واكثر ما يمكن التعويل على موقفها إسناد طهران اقتصادياً ودبلوماسياً دون لعبها اي دور حاسم لحل الأزمة أو تغيير موازين القوى فلن تتدخل الصين عسكرياً في حال تصاعد النزاع بين إيران وإسرائيل حتى وإن توسع التدخل الأميركي الى ابعد مدى

مفهوم الشراكة الاستراتيجية عند الصين يعني إبقاء إيران بعيدة عن التحول إلى المحور الموالي للغرب وهو ما يفرض على بكين وعلى موسكو أيضاً بعض الالتزامات تجاه طهران إذ إن انكسار الأخيرة وتحييدها بشكل أو بآخر سوف يقلص من حضور روسيا والصين في توازن القوى بالشرق الأوسط الجديد ويهدد مصالحهما الجيوسياسية وللحقيقة فان الجانبين الصيني والروسي اصبحا يفقدان جميع ادوات الضغط الفاعلة لتجنب التصعيد الامريكي في حال وجود تحرك جدي لزعزعة استقرار النظام الإيراني والقضاء عليه

البراغماتية الاقتصادية باتت مهنة صينية بامتياز حيث ترى في إيران شريك اقتصادي حيوي ولكنها لا ترى أي مصلحة لها في الانخراط في صراع عسكري مباشر يعرض مصالحها الاقتصادية للخطر وان موقفها الحيادي يعكس رغبتها في الحفاظ على استقرار المنطقة لضمان استمرار تدفق النفط ونجاح مبادرة ( الحزام والطريق ) وهذا بالتأكيد شكل خيبة أمل لإيران التي كانت تتوقع دعم أكبر من الصين بناء على الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة بينهما لكن الصين أعطت الأولوية لمصالحها الجيوسياسية العالمية على الالتزام بحليف واحد وهذا يبين نهج الصين في تفضيل المكاسب طويلة الأجل على المواقف العقائدية الثابتة

الشراكة الاستراتيجية والاستثمارية بين الصين وايران شاملة ومدتها 25 سنة بقيمة تتجاوز 400 مليار دولار مقابل الحصول على النفط الإيراني بأسعار مخفضة حيث تستورد بكين حوالى 90% من النفط الإيراني بمعدل 15 % من النفط الذي تستورده عالمياً كما أن لإيران موقعاً استراتيجياً مهماً وهي نقطة وصل بين الشرق والغرب وتتمتع بسواحل طويلة على الخليج العربي وبحر عمان تمنحها وصولاً حيوياً إلى الممرات المائية الدولية ولا سيما مضيق هرمز وللبلدين أيضاً علاقات في مختلف المجالات الصناعية والثقافية والتكنولوجية والزراعية والسياحية والطبية والعسكرية ولا سيما في مجالات تصنيع الطائرات المسيرة والصواريخ البالستية

التحركات الصينية خلال الازمة شكلت خذلان كامل لإيران بل وانعكاس لاستراتيجية بكين البراغماتية التي تركز على حماية مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية بحسب بنود اتفاقية الـ25 عام التي جعلت إيران شريكًا اقتصاديًا مهمًا لكن الصين بالطبع لن تعرض علاقاتها مع إسرائيل ودول الخليج أو الولايات المتحدة للخطر من أجل دعم عسكري مباشر لإيران ومع اتساع حدة الصراع اضطرت بكين للذهاب نحو العمل الدبلوماسي والذي لم يتجاوز النداءات والمطالبات في اغلب الأحوال وعليه يمكن القول انه لم يبقى لإيران في الوقت الراهن من يمكن وصفه بحليف حقيقي خاصة بعد سقوط القناع الروسي والصيني وانفضاح المواقف على الارض

نكرر ان العلاقة مع إيران بالنسبة للصين مفيدة جدا لكن ضمن حدود وظيفية تتعلق بالضغط على الغرب لكنها لا ترقى إلى درجة المخاطرة بعلاقاتها المعقدة مع إسرائيل ولا إلى درجة تحمل أعباء التصعيد الإقليمي فحسابات بكين الاقتصادية أولاً وهي ترى في استقرار الشرق الأوسط ضرورة لتأمين مصالحها الحيوية في النفط والطاقة والتجارة ولا تجد مصلحة لها في الانحياز لطرف يمكن أن يجرها إلى صراعات طويلة الأمد قد تضر بمشروعها الأوسع ( الحزام والطريق ) مما جعل إيران تواجه الهجمات وحدها دون غطاء فعلي حتى من اقرب حلفائها المباشرين وهذه الفجوة عكست طبيعة التحالفات والالتزامات العسكرية ووضحت محدودية تحالفات طهران التي تعتمد في الأساس على شبكة علاقات متبادلة ومرنة تتغير وفق المصالح والظروف دون وجود تعهدات صلبة تلزم الحلفاء بالدفاع المشترك عنها عند الخطر او الحاجة

في المحصلة التقييمية وبعد متابعة العديد من التقارير والتحليلات نؤكد ان الصين لا تعتبر صديق جيدا وقت الضيق وغالبا ما تدير ظهرها عندما يحتاجون إليها حلفاءها ومن ينتظر من بكين أنها الحليف ومركز الثقل في أمنه واستقراره يجب أن يعرف أن بوصلته تتجه إلى آفاق الخطأ وأن الدبلوماسية الصينية المرنة والخشنة هما وسيلة للتعاطي والتعامل الوظيفي فقط وبعد هذه التجربة الايرانية الاليمة على الساسة في طهران ان يعيدوا مراجعة خطاباتهم الرسمية حول طبيعة المحاور الدولية واعادة فهم وتوضيح العلاقة مع الصين وروسيا خصوصا في ضوء ما ظهر منهما من تردد واضح وتخل مباشر في لحظة كانت فيها طهران بأمس الحاجة لوقوفهما الى جانبها

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى