استهداف كنيسة العائلة في غزة جريمة حرب أم خطأ عسكري

مهدي مبارك عبد الله
ربما في غزة وحدها لازالت الكنائس المقدسة ومنابر الإيمان هدف متجدد للحرب وهي تصلي تحت النار وتتعمد بانقاض القصف وتناجي ربها من فوق الدمار بعدما استهدفها جيش الاحتلال الإسرائيلي الغادر عن سابق قصد وعمد دور العبادة المسيحية ولطخ جدرانها بدماء الابرياء وحولها إلى أنقاض ومقابر وكسر صليبها واوقف قرع اجراسها في ظل حرب بربرية ضروس لم يميز فيها بين عسكري ومدني وهو يقصف بحقد وكراهية بيت السلام المطلوب والملاذ الانساني المنشود الذي لم يجد احد يحميه في زمن الخذلان والذلة والصمت الجبان هذا ( غيض من فيض ) حكاية كنيسة العائلة وعموم الكنائس الجريحة في غزة التي تبكي على ضحاياها ورموزها وسأحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على الأبعاد القانونية والإنسانية والدينية لهذه الهجمات وتحليلها في سياق النزاع الأوسع الذي يفتك بالبنية الثقافية والمجتمعية والحضارية لغزة
في قلب الموت والدمار الذي يلف كل ارجاء غزة لم تسلم دور العبادة التي طالما احتضنت النازحين دون تمييز ديني أو عرقي من نيران الحرب حيث طالت الغارات الإسرائيلية خلال الأشهر الماضية عددًا من الكنائس المسيحية في القطاع اودت بحياة مئات العائلات النازحة وقد أثارت تلك الهجمات صدمة كبيرة بين أبناء الطوائف المسيحية والإسلامية على حد سواء خاصة وأن هذه الكنائس ظلت عهودا طويلة رموزًا للتعايش والسكينة والسلام فكيف وصل الأمر إلى استهداف أماكن مقدسة بهذا الشكل المريع وما تداعيات ذلك على النسيج الديني والإنساني المستقبلي في غزة
قبل ان نستفيض في قراءة المشهد وتقديم التحليل اسمحوا لنا ان نتساءل معا لماذا تستهدف إسرائيل الكنائس والمسيحيين في وقت يلجأ فيه الأبرياء إلى بيوت الله طلبًا للنجاة والصواريخ والقنابل تهوي على الكنائس وتحيلها الى مذابح ومقابر فليس من السهل على المرء تصديق أن أماكن وجدت لتكون ملاذًا للأمن والسلام أصبحت هدفًا لحرب لا ترحم رغم كل تبريرات إسرائيل بأن الضربات كانت خطأ أو بسبب نشاطات مشبوهة في الجوار وأن تكرار المشهد بصورته المؤلمة يدفع إلى التساؤل ايضا هل هذا استهتار بحرمة المقدسات أم محاولة لتفريغ غزة من تنوعها الديني والتاريخي الفريد و المتميز
يعلم للجميع بان الكنائس في غزة ليست مجرد أبنية حجرية فيها قاعات لأداء الصلوات وابراج لقرع الاجراس بل هي حاضنات للكرامة وملاجئ للقلوب النازفة من شدة القصف والخوف كما انها باتت رمزًا لمعاناة الأقلية المسيحية عبر تعرضها للهدم وتدمير تراثها الثقافي وعندما تقصف هذه الأماكن لا يدمر المكان فقط بل يقتل الامل في نفوس الناس ويكسر الرجاء في قلوبهم ويصاب التعايش المجتمعي بمقتل بالغ الخطورة وربما لم تكن الطائفة المسيحية في غزة كبيرة العدد لكنها وفيرة بالحضور والرمزية وحين يُستهدف وجودها يستهدف وجه غزة الحضاري والروحي وتمحى واحدة من آخر صور الإنسانية في خضم هذا الجنون الدموي اللا متناهي ومع استمرار هذا الاجرام المفزع فاننا نفكر باستغراب هل بقي ( حق للسلام ) أن يرفع صوته من فوق كنائس مدمرة والعالم يواصل صمته الطويل حتى تُطفأ كل شمعة حياة وتزهق كل روح بيوت الله
منذ أكتوبر 2023 استُهدفت قوات الاحتلال الاسرائيلي ثلاث كنائس رئيسية في غزة خلال تصعيدها العسكري ففي 19أكتوبر 2023 استهدفت كنيسة القديس بورفيريوس وهي أقدم كنائس غزة وأهمها بعدما تحصن فيها 150 مدنيًا من نازحي الحرب في محاولة للنجاة من القصف وقد أودت الضربة الجوية آنذاك بحياة 18 شخص بينهم نساء وأطفال وشيوخ
وفي 17 أكتوبر 2023 قصف الطيران الحربي الاسرائيلي الساحة الخارجية للكنيسة المعمدانية في مجمع مستشفى الأهلي حيث لجأ أكثر من 500 نازح والحصيلة كانت مروعة بسقوط مئات القتلى والجرحى وفي 17 يوليو 2025 وجهت دبابات الاحتلال عدة قذائف ثقيلة نحو كنيسة العائلة المقدسة التي كانت تؤوي بين 400 و600 نازح بينهم أطفال وكبار سن مسلمين ومسيحيين ومن ذوي الاحتياجات الخاصة كانوا يحتمون فيها خلال القصف مما تسبب بمقتل ثلاثة مدنيين امرأة مسنة ورجل دين من الكنسية هو القس (غابرييل رومانيلي ) وقتيل آخر وإصابة10 آخرين وجرح 10
بموازاة الاجرام الاسرائيلي المتكرر بحق دور العبادة المسيحية لم تتحرك أمريكا والدول الغربية لحماية الكنائس والمسيحيين في غزة رغم أن الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية ترفع شعار حماية الأقليات الدينية وتظهر دائمًا اهتمامًا خاصًا بحماية المسيحيين في الشرق الأوسط الا إن مواقفها تجاه استهداف الكنائس في غزة كانت باهتة وربما متواطئة بالصمت خاصة وان امريكا تعتبر إسرائيل حليف استراتيجيً لا يُمس حيث تقدم لها الدعم غير المشروط في معظم الظروف حتى عندما تتورط في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي وهذا مل يجعل من الصعب على الإدارة الأمريكية أو بعض الدول الأوروبية انتقاد تصرفات إسرائيل حتى لو كانت تطال مدنيين مسيحيين ابرياء داخل كنائسهم
وعلى العكس من ذلك نرى دول الغرب غالبًا ما تتحرك لحماية المسيحيين في مناطق اخرى مثل العراق وسوريا يغض الطرف عندما يكون المعتدي حليفً مثل إسرائيل ام لا وهذا التناقض يثير تساؤلات أخلاقية ويضعف مصداقية الخطاب الغربي حول حقوق الإنسان وحرية العبادة كما ان الإعلام الغربي شارك في ذات المهمات وهو يقدم غزة على أنها منطقة منكوبة خاضعة لحكم حماس فقط وهو ما يعطي تبريرًا ضمنيًا للهجمات الإسرائيلية وكأن كل من يعيش في غزة متهم حتى يثبت العكس بمن فيهم المسيحيون
باستثناء بعض الإدانات من الفاتيكان وبطريركية القدس فإن رد الفعل الكنسي الغربي عموما كان خجولًا مقارنةً بحجم المأساة وقساوة المشهد حيث يتكرر الصمت المريب والكنائس في غزة تدمر و تحترق فأين تلك الأصوات الرحيمة التي اعتادت أن ترفع شعارات حماية المسيحيين في الشرق الأوسط وأين تلك الحكومات التي لطالما ادعت الدفاع عن الحريات الدينية وكرامة الانسان فلم نجد من واشنطن وعواصم أوروبا سوى صمت مدو وكأن المسيحيين في فلسطين أقل شأنً من غيرهم أو أن دماءهم لا تستحق التضامن ولهذا لم تتحرك امريكا و الدول الغربية بجدية لحماية الكنائس والمسيحيين في غزة لأن الفاعل هو إسرائيل حليفهم التي تعامل كاستثناء دائم في السياسات الغربية بكل تفاصيلها
عبر التاريخ لطالما قدمت امريكا نفسها كمدافع أول عن الحريات الدينية وحماية الأقليات وها هي اليوم تقف عاجزة أو غير راغبة في توجيه أي إدانة واضحة لقصف اسرائيل أماكن مقدسة يحتمي فيها أطفال وشيوخ ومؤمنون خوفا من الموت وكأن السياسة عندهم اصبحت أهم من الإيمان والتحالف العسكري اولى من أرواح الأبرياء ومن الواضح ان هذا الصمت لم يكن عاديًا بل كان طعنة غادرة في ( صليب المسيح ) الذي لم يفرق يوما بين إنسان وآخر سيما وان غزة بكل مآسيها كانت تنتظر كلمة عدل لكنها لم تأتِ وكانت كنائسها ترجو أن تصان كما صانت واوت مئات النازحين لكن أحدًا لم يصغِ لصراخها وهي تموت تحت القصف والدمار ولهيب النار
جيش الاحتلال الاسرائيلي في العادة لا يعلن صراحة عن نيته باستهداف الكنائس أو الطوائف المسيحية إلا أن الوقائع الميدانية تشير إلى أن دور العبادة لم تستثنَ من دائرة القصف والهجمات المتكررة على الكنائس وبما يمس الهوية الدينية والتراث الثقافي المسيحي في غزة حيث يعيش نحو 1,000 مسيحي فقط معظمهم من الأرثوذكس وقلة من الكاثوليك والحكومة الإسرائيلية تبرر ضرباتها بوجود نشاطات عسكرية في محيط الكنائس ووفقا لبيانات صدرت عن وزارة الأوقاف في غزة تمت إزالة ثلاث كنائس بالكامل منذ بداية الحرب حتى فبراير 2025 إلى جانب تدمير أو اتلاف العديد من المقابر والمواقع الدينية والتراثية الأخرى
تصريحات وادعاءات بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن استهداف كنيسة العائلة المقدسة في غزة كان ( خطأ ) نتيجة فوضى عسكرية في المكان لم تُقنع معظم المراقبين الدوليين لأنه غالبًا ما كان جيش الاحتلال يبرر ضرب الأعيان المدنية من ( مستشفيات مدارس مساجد كنائس ) بانها نتيجة أخطاء استخباراتية أو لوجود مسلحين بالقرب منها
لقد تكررت الافتراءات الاسرائيلية كثيرًا خاصة عند سقوط ضحايا مدنيين أو استهداف مواقع دينية ومدنية حساسة ومن الناحية السياسية والإعلامية فهذه التصريحات تهدف إلى تقليل الضغط الدولي والانتقادات الحقوقية عندما تكون الجهة المستهدفة ذات رمزية دينية كبيرة كما هو الحال مع كنيسة العائلة التابعة للكنيسة الكاثوليكية لكن كل ذلك لا يعفي كيان الاحتلال من المسؤولية الأخلاقية أو القانونية خصوصًا إذا أثبتت التحقيقات أن الهجوم كان غير مبرر عسكريًا أو تم رغم معرفة الجيش الإسرائيلي بوجود مدنيين عزل
خلاصة : إن استهداف الكنائس المسيحية في غزة النابضة بالأمل والإيمان في وقت كانت تؤوي فيه مئات النازحين من مختلف الأديان لا يمكن اعتباره ( خطأ غير مقصود ) او حادثً عرضيً معزولً عن مسار الحرب بل هو مؤشر مقلق على تصعيد منظم يطال البنية الروحية والثقافية للمجتمع الغزي في حين يُفترض أن تبقى دور العبادة محصنة بموجب القانون الدولي واتفاقيات جنيف ومواثيق حقوق الإنسان إلا أن الوقائع تشير إلى غياب الردع والمساءلة رغم ازدياد الأصوات الحقوقية والدينية الداعية لتحقيقات مستقلة
اخيرا يبقى السؤال الجوهري مطروحًا الى متى سيبقى المسيحيون المدنيون ومقدساتهم رهائن المزاج الاسرائيلي في صراع سياسي مفتعل تغيب فيه قواعد العدالة ومتى يفهم بان حماية الكنائس هي مقدمة ضرورة للمحافظة على اقلية فلسطينية مسيحية يطالها مخطط اجرامي في وجودها وتاريخها وهويتها في وقت لم تعد فيه الكنائس مجرد أماكن عبادة روحية فقط بل ملاجئ أمنة للنازحين المسالمين وأن استمرار استهدافها لم يكن عرضيًا او مجرد ضرر جانبي انما كان هدف مباشرً بحسب بيانات الفاتيكان ومؤسسات مسيحية عالمية بالإضافة الى صور الأقمار الصناعية وشهادات الناجين التي اثبتت أن موقع كنيسة العائلة لم يكن يشكل اي تهديدً عسكري لجيش الاحتلال وان قصفه كان غير مبرر ويعد جريمة حرب مكتملة الاركان لابد من محاسبة الاحتلال قانونيا على ارتكابه
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية