الذباب الإلكتروني… هل نحتاج فعلاً إلى جيش إلكتروني لمجابهته؟

الدكتور مؤيد عمر
في زمنٍ أصبحت فيه المعلومة أقوى من الرصاصة، لم تعد الحروب تُخاض على الجبهات وحدها، بل باتت الشاشات والهواتف الذكية ساحات صراع لا يقل تأثيرها عن الميدانَ؛ في هذا السياق، برز مصطلح “الذباب الإلكتروني ” (Electronic Flies) ليصف ظاهرة خطيرة بدأت تظهر بشكل واضح وتقوم على إستخدام شبكات من الحسابات الوهمية أو الروبوتية والتي تم انشائها على حسابات مواقع التواصل الإجتماعي وتُدار بأساليب ممنهجة لزرع رسائل موجهة والتأثير في الرأي العام وتشويه الحقائق، هذه الحسابات لا تتصرف عشوائيًا بل تتحرك ككتيبة رقمية تتبع أوامر دقيقة تُغرق الفضاء الإلكتروني بمنشورات وصور وفيديوهات تخدم الهدف المحدد لتضليل الجمهور وخلق انقسامات بالمجتمع وزرع الفتن (العنصرية والإقليمية والطائفية) أو تصفية حسابات سياسية وإعلامية بطرق خفية.

علميًا، يصنّف الذباب الإلكتروني ضمن ما يُعرف في دراسات الأمن السيبراني بـ”السلوك غير الأصيل المنسق ” (Coordinated Inauthentic Behavior)، وهو أحد أشكال الحرب السيبرانية التي لا تُستخدم فيها الأسلحة التقليدية، بل تُوظَّف فيها البيانات والمحتوى لزعزعة الإستقرار النفسي والإجتماعي والسياسي؛ ورغم أن مستخدم موقع التواصل الإجتماعي العادي قد لا يميّز بسهولة بين محتوى حقيقي وآخر مدسوس ومزيف، إلا أن الأثر التراكمي لهذه العمليات يكون بالغًا، خاصة عندما يستهدف المؤسسات العامة أو القيم المجتمعية أو حتى القضايا الوطنية الحساسة.

أمام هذا التهديد المتزايد، تتجه العديد من الدول إلى تبني فكرة “الجيش الإلكتروني” كأداة دفاعية وردعية، قادرة على التصدي للهجمات المعلوماتية المنظمة، ليس المقصود هنا تكوين جيش تقليدي بزي عسكري، بل نخبة مدربة من خبراء الأمن السيبراني، ومهندسي البيانات، والمحللين النفسيين، والمتخصصين في الذكاء الإصطناعي، يعملون بشكل مؤسسي لرصد الحملات الرقمية المشبوهة، تفكيك شبكات الذباب الإلكتروني، وكشف مصادرها وأساليبها، هذا الجيش يعمل بهدوء في الخلفية، لكنه يُعد حائط الصد الأول في مواجهة أكثر أدوات الحروب الحديثة خداعًا وتخفيًا.
لكن في المقابل، لا يمكن أن يكون الحل فقط عبر إنشاء جيوش إلكترونية، المواجهة الناجحة تتطلب منظومة متكاملة تبدأ من تحصين المجتمع بالوعي والمعرفة، فكلما زاد وعي الأفراد بكيفية عمل الحملات التضليلية وأساليب التلاعب الرقمي، قلت فاعلية الذباب الإلكتروني؛ كما أن الحلول التقنية يجب أن تترافق مع تشريعات رقمية صارمة، تجرّم استخدام الحسابات الوهمية في التأثير على النقاش العام، وتُلزم شركات التواصل الإجتماعي بتحمل مسؤولياتها في مكافحة هذا السلوك المنظم، ولا بد أيضًا من شراكات دولية حقيقية، فالهجمات الإلكترونية لا تعترف بالحدود، وأغلب الحملات الممنهجة تُدار من خارج نطاق الدولة المستهدفة.
في المحصلة، الذباب الإلكتروني لم يعد مجرد ظاهرة رقمية هامشية، بل أضحى أداة فعالة في حروب النفوذ والتأثير، والمجتمعات التي لا تدرك خطورته، ولا تملك الأدوات العلمية والمؤسساتية للتصدي له ستكون عُرضة لتشويه وعيها الجمعي وخلخلة استقرارها الداخلي؛ بناء الجيش الإلكتروني خطوة ضرورية، لكنها ليست كافية، وحده التوازن بين الأمن الرقمي والوعي المجتمعي والتشريع العادل هو ما يشكل درعًا حقيقيًا في وجه هذه الحرب الخفية التي تُخاض بين سطر وآخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى