بلجيكا توقف تسليح إسرائيل قرار قضائي يهز صمت أوروبا

مهدي مبارك عبد الله
سنحاول في هذا المقال رصد خلفيات القرار ودلالاته وأثره المحتمل على سياسات تصدير الأسلحة في أوروبا بعد ان اغلق القضاء البلجيكي أبواب النار وفتح نوافذ الضمير الغربي في دلالات قانونية وإنسانية تجاه ما يجري من عدوان بربري على غزة
في وقت تواصل فيه عواصم كبرى مد إسرائيل بالسلاح بلا مساءلة تأتي بلجيكا لتكسر القاعدة وتفتح الباب أمام مساءلة أوروبية واسعة حول شرعية هذا الدعم ومواءمته مع القوانين الدولية كانت العدالة البلجيكية تجهز لحكمٍ مفاجئ قلب المعادلة راسا على عقب بعد شهور متواصلة من الجدل والضغوط المدنية أصدرت محكمة مدنية في العاصمة البلجيكية بروكسل منتصف يوليو 2025 حكما يلزم ( حكومة إقليم الفلمنك ) شمالي البلاد بوقف عبور الشحنات العسكرية إلى إسرائيل عبر ميناء أنتويرب ثاني اكبر ميناء للحاويات في اوروبا والذي طالما شكل بوابة صامتة لمرور السلاح نحو جبهات القتال ( القانون لا يمكن أن يكون جسراً للدم )
القرار صدر استجابة لدعوى قضائية تستند إلى القانون الدولي الإنساني رفعتها منظمات مدنية اتهمت السلطات البلجيكية بالتورط غير المباشر في انتهاكات القانون الدولي الإنساني عبر تسهيل مرور أسلحة وذخائر ومكونات تدخل في تصنيع معدات عسكرية تستخدم في العدوان على قطاع غزة وفق بيانات مختصة تم الكشف عنها خلال جلسات المحكمة اثبتت نقل معدات عسكرية من فرنسا إلى شركة إسرائيلية تستورد لصالح الجيش الإسرائيلي دون تدقيق كافٍ حول الوجهة النهائية أو استخدامها المحتمل في مناطق الصراع
المحكمة البلجيكية قضت في قرارها الوقف الفوري لجميع عمليات العبور العسكري الموجهة لإسرائيل ما لم تُثبت الوجهة المدنية للمواد بشكل قاطع كما فرضت غرامة مالية قدرها 50,000 يورو عن كل شحنة تنتهك القرار وهي ايضا سابقة قانونية تربط مباشرة بين المسؤولية الحكومية ومبدأ عدم التواطؤ في الانتهاكات الدولية كما ألزم القضاء الحكومة الفلمنكية بالتفتيش والمراقبة الدقيقة على الشحنات وقد استندت المحكمة إلى تقارير أممية تشير إلى احتمال استخدام المعدات في ارتكاب جرائم حرب خاصة في ظل العدوان المستمر على غز ة حيث وجه القضاء البلجيكي رسالة أخلاقية واضحة في وجه التواطؤ العسكري غير المباشر مع اسرائيل عكست موقفً بلجيكيً متصاعدً في الضغط على إسرائيل مقارنة بتصويت بلجيكا في الأمم المتحدة لصالح وقف الحرب والاعتراف بدولة فلسطين في عام 2023
الحكم القضائي كان اشبه بانقلاب تاريخي على السياسات العسكرية خاصة بعدما ما ثبتً أن صوت الضحايا حين يصل إلى قاعات المحاكم فهو قادر على خلخلة جدار الصمت ولو في دولة واحدة وقد لاقى القرار ترحيبًا واسعًا من منظمات حقوق الإنسان فيما تباينت ردود الفعل الرسمية بين الحذر والرفض في مشهد يعكس تصاعد التوتر بين المسار القانوني والمصالح السياسية والاقتصادية داخل الدولة البلجيكية
المفارقة اللافتة للنظر في هذا الصدد هي مسألة التناقضات الرسمية للجيش البلجيكي الذي واصل خلال عامي 2024 و2025 شراء ذخائر ومعدات من شركات إسرائيلية وفقًا لتحقيقات صحفية فقد تم شحن ما لا يقل عن 109.5 طنًا من الذخائر إلى بلجيكا رغم استمرار الحرب الإسرائيلية في غزة ما يسلط الضوء على التباين الكبير بين القرارات القضائية والممارسات الحكومية سيما بعدما دافع وزير الدفاع البلجيكي عن المشتريات واكد أن إسرائيل لا تزال شريك تقني رئيسي وأنه لا قانون يمنع التعامل العسكري معها في الوقت الحالي
بسبب القرار القضائي البلجيكي اصبحت أوروبا عموما أمام لحظة مراجعة حساسة بان تعيد بعض الدول النظر في تراخيص تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاع بينما تحركت دول مثل إسبانيا وأيرلندا لفرض قيود جزئية على التصدير ولا تزال دول كفرنسا وألمانيا تتحفظ على قرارات مشابهة متذرعة بأن الحظر الكامل قد يضر بعقود اقتصادية أو سيادية وبهذا القرار قد تتحول بلجيكا إلى سابقة قانونية تضغط على العواصم الأوروبية الأخرى خاصة في ظل تصاعد الغضب الشعبي إزاء ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في غزة فهل يكون هذا القرار بداية تحول أوسع في أوروبا تجاه دعم الاحتلال الإسرائيلي وهل يتوسع الضغط الشعبي والسياسي في أوروبا في وقت تزداد فيه المجازر الجماعية في قطاع غزة
لقد حمل القرار في طياته بعدًا قانونيًا واضحًا سرعان ما تحول إلى عنوان سياسي في الإعلام الأوروبي وسط تساؤلات متزايدة حول موقف الدول الغربية من الدعم غير المباشر لإسرائيل جاء في ظل مؤشرات على تبدل تدريجي في الموقف البلجيكي الرسمي فقبل أسابيع صرح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية ماكسيم بريفو بأن بلاده قررت رفع حدة لهجتها تجاه إسرائيل مؤكدًا أن ما يجري في غزة لا يمت للدفاع المشروع عن النفس بأي صلة سيما في ظل تصاعد المطالبات الشعبية بضرورة فرض حظر شامل على تصدير السلاح وبينما يرى البعض في هذا الحكم خطوة شجاعة تعكس انتصارًا للعدالة الدولية والتزام القضاء البلجيكي بالقانون الدولي يراه آخرون موقفًا سياسيًا يتقاطع مع حملة أوسع لمقاطعة إسرائيل وتعبيرًا رمزيًا لا يغير من المعادلة السياسية القائمة
في الواقع العملي ربما لا يُنهي قرار المحكمة البلجيكية علاقات التسلح مع إسرائيل بشكل كامل لكنه قد يضع سقف قانوني ويفتح الباب أمام مساءلة قانونية متصاعدة للدول الغربية ويشكل اختبارًا حقيقيًا لاستقلال القضاء في مواجهة النفوذ السياسي والعسكري في الوقت الذي تحاول فيه الحكومات تحقيق التوازن بين مصالحها الاستراتيجية ومطالب شعوبها يؤكد هذا الحكم أن العدالة قد تكون آخر ما يعول عليه في كبح جماح الصفقات التي تمر تحت غطاء الشرعية لكنها تتجه مباشرة نحو ساحات الدمار والسؤال هل يمكن أن يشكل الحكم البلجيكي نموذجًا لدول مثل إسبانيا أو أيرلندا أو ألمانيا ام يبقى معلق ما بين حدود الردع والرمزية
التحول القضائي البلجيكي كان بمثابة كسر لحالة الإنكار الأوروبي الجماعي تجاه الجرائم الإسرائيلية ولم يكن ليتحقق لولا قوة واصرار الحراك الحقوقي الداخلي في بلجيكا حين أرسلت منظمات بلجيكية بارزة من بينها فريدزآكسي وإنتال ورابطة حقوق الإنسان إخطارًا قانونيًا إلى الحكومة الفلمنكية تطالب فيه بوقف فوري لواحدة من شحنات المعدات العسكرية الواردة من فرنسا والمتجهة الى اسرائيل معتبرةً السماح بمرورها خرقًا للقانون البلجيكي والدولي المنظم لتجارة الأسلحة وأن استمرار مثل هذا التوريدات يضع بلجيكا في موقع المتواطئ الصامت على جرائم حرب ترتكب بحق المدنيين العزل في غزة وهذا التغير القضائي وإن بدا متأخرًا فانه يعكس مدى تأثير الضغط الشعبي والسياسي المتصاعد على الحكومات الأوروبية التي تواجه انتقادات متزايدة لصمتها المريب تجاه حرب إبادة جماعية متلفزة ترتكب يوميًا في غزة
قرار محكمة بروكسل بمنع نقل الأسلحة عبر ميناء أنتويرب مثل خطوة بارزة في محاربة التواطؤ المدني والعسكري مع إسرائيل واظهر أن المحاكم يمكن أن تكون قوة رادعة ضد انتهاك القوانين الإنسانية مقابل استمرار التناقضات والانقسامات السياسية والتجارية والعسكرية داخل السياسة البلجيكية ويبقى السؤال المعلقً بموازاة كل ذلك هل سيتحول هذا القرار إلى قاعدة قانونية وأخلاقية لرؤى أوروبية جديدة في التعامل مع النزاعات أم ستفرض اعتبارات الأمن والاقتصاد حدودًا على هذا الاتجاه وهل يكفي القانون وحده لإيقاف الحرب أم أنه مجرد ورقة رمزية في وجه تحالف المصالح الاقوى
الأهمية الاعتبارية لهذا القرار تكمن في كونه يأتي من محكمة محلية في بروكسل إحدى العواصم السياسية الأهم في أوروبا والتي تحتضن مقر الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ما يمنحه وزنً دبلوماسيً وقانونيً مضاعفً ولكونه ايضا يستهدف ميناء ( انتويرب-بروج ) أحد أكبر الموانئ البحرية في أوروبا والعالم والذي تبين وفق تقارير موثّقة أنه كان بوابة رئيسية لشحنات معدات تدخل في تصنيع دبابات الميركافا وعربات النمر الإسرائيلية وغيرهما
خاتمة : يبدو ان التحدي الأهم بعدما نجح القضاء البلجيكي في توجيه صفعة قانونية لحلقات الدعم غير المباشر لإسرائيل بان تتبعه إرادة سياسية تكبح صفقات السلاح وتترجم قرارات القضاء إلى إجراءات سياسية وعسكرية ودبلوماسية فهل تكون هذه الخطوة بداية لانحياز أوروبي أوسع للحق والعدالة أم مجرد صرخة في وادٍ سحيق غارق بالمصالح التجارية والعسكرية وليس اكثر من محاولة قانونية ضعيفة أمام قوة لوبيات التسلح الداعمة لإسرائيل بينما يواصل جيش الاحتلال ارتكابه ابشع المجازر والابادة الجماعية في غزة مدعوم بالتعاطف والتأييد وأحدث الأسلحة الامريكية و الغربية ورغم صدور هذا القرار القضائي من دولة صغيرة في الحجم الا انه يحمل وزنًا سياسيًا كبيرًا كونه أول موقف رسمي داخل الاتحاد الأوروبي يقيد الدعم العسكري المباشر لإسرائيل منذ تصاعد العدوان على غزة
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية