نداء ملكي يتجاوز الحدود هل تتفاعل الجزائر مع دعوة الرباط للمصالحة ؟

مهدي مبارك عبد الله
في خطاب متلفز للعاهل المغربي الملك محمد السادس وجهه للشعب المغربي بمناسبة الذكرى الـ 26 لجلوسه على العرش التي وافقت يوم الاربعاء 30 يوليو/ تموز أكد فيه استعداد بلاده لأجراء حوار صريح وأخوي وصادق مع جارتها الجزائر بشأن القضايا العالقة بينهما كما اضاف الملك المغربي في حديثه ان ( موقفي سيبقى واضح وثابت وهو أن الشعب الجزائري شعب شقيق وتجمعه بالشعب المغربي علاقات إنسانية وتاريخية عريقة وتربطهما أواصر اللغة والدين والجغرافيا والمصير المشترك لذلك حرصت دوما على مد اليد لأشقائنا في الجزائر واننا نطمح ان نعمل مع رئاستها على تطوير العلاقات الثنائية )
كما بين جلالة الملك أن المغرب ( سيظل دائمًا منفتحًا على الحوار والتفاهم مع الأشقاء في الجزائر ومتمسكً بمبدأ حسن الجوار ووحدة الشعوب المغاربية ) حيث حملت هذه الدعوة رمزية وطنية ودلالة استراتيجية وهي ليست المرة الأولى التي يمد فيها المغرب يده نحو الجزائر لكنها ربما الدعوة الجديدة التي تحمل في طياتها إلحاح التاريخ وواقعية الجغرافيا وتحديات اللحظة الإقليمية وهي تأتي ضمن سلسلة من المبادرات الرسمية التي قوبلت بجدار سميك من الصمت أو الرفض من الطرف الجزائري فهل ستجد هذه الدعوة التاريخية آذان صاغية في الجزائر أم سنظل رهائن لمعادلات سياسية خلافية وقرارات أحادية تعرقل وحدة ومستقبل الشعوب المغاربية
خطاب العرش المغربي لم يحمل دعوة بروتوكولية فقط بل عبر عن إرادة سياسية ثابتة ورغبة حقيقية لإغلاق جراح الماضي وبناء مستقبل مشترك وهو نداء للتاريخ والعقل والدم المشترك واللغة الواحدة والقبور المختلطة لشهداء الاستعمار الفرنسي وبالقراءة الدقيقة لمضمون الخطاب نجد تمسكه الكامل بالثبات على المواقف ومصداقية النوايا فمنذ أكثر من عقدين انتهج المغرب سياسة ثابتة تجاه الجزائر تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل ومد اليد للحوار وهو ما أكدته خطب العرش على امتداد السنوات الماضية خاصة في الاعوام 2021 و2022 و2023 حين خاطب الملك المغربي الرئيس الجزائري مباشرة قائلًا ” نطمئن أشقاءنا في الجزائر بأن الشر والمساس بأمنهم واستقرارهم لن يأتيهم من المغرب ” وحتى بعد قرار الجزائر الأحادي بقطع العلاقات الدبلوماسية سنة 2021 لم تتردد المملكة المغربية بانتهاج خطوات مماثلة بل واصلت التعبير عن رغبتها في التهدئة وامتنعت عن الرد بالمثل رغم الحملة الإعلامية الرسمية الجزائرية الشرسة والمتواصلة والتي طالت العديد من الاساسيات والمقدسات
بالرغم من كل المبادرات المغربية المتكررة تمسكت الجزائر بموقفها المتشدد دون أن تقدم أي مبررات واقعية لهذا الرفض المستمر للحوار حيث يرى عدة مراقبون أن القيادة الجزائرية كانت توظف الملف المغربي داخليًا كعامل توحيد وهمي لتحويل للأنظار عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها البلاد من خلال اصرارها المتواصل على ربط أي تقارب بمواقف المغرب من ملف الصحراء المغربية متجاهلة أن هذا الملف يعالج أمميًا وأن العلاقات الثنائية لا يمكن أن تبقى رهينة لخلاف إقليمي عمره عقود طويلة
من وجهة نظر تحليلية متوازنة ومحايدة نرى إن المسؤولية السياسية والأخلاقية لتعطيل المصالحة حتى الآن تقع على عاتق الجزائر بالاعتماد على الأسباب التالية بدءا من المبادرة الى قرار قطع العلاقات مع المغرب في 24 / 8 / 2021 بشكل أحادي حيث لم يسبقه أي حوار أو إنذار دبلوماسي مع استمرار الرفض العلني والمتكرر لكل دعوات المغرب للحوار والتقارب سواء المباشر أو غير المباشر مع الإصرار على استخدام ملف الصحراء كورقة ضغط وابتزاز سياسي بدل معالجته في إطاره الأممي بالإضافة الى التصعيد المتكرر للحملات الإعلامية الرسمية ضد المغرب وشيطنته أمام الرأي العام الجزائري رغم أن الرباط لم تتورط بتاتا في سلوك مماثل وبهذا الحال لا يمكن الحديث عن خلاف متبادل ونحن نقف أمام طرف مبادر هو المغرب وآخر يرفض المبادرة يتمثل بالجزائر
ضمن سلسلة الذرائع والمبررات التي تروجها الجزائر لتبرير استمرار القطيعة تطبيع المغرب لعلاقاته مع إسرائيل وبالتدقيق في هذا الامر نجد ان الجزائر لم تقطع علاقاتها مع دول أخرى لها علاقات متقدمة مع إسرائيل سابقة ولا حقة مثل الإمارات والبحرين ومصر والاردن وتركيا ( انا لست من انصار التطبيع بتاتا بل من اشد المعادين له ومن اقوى المطالبين بقطع العلاقات مع كيان الاحتلال فورا مهما كانت درجتها )
المغرب أوضح مرات عديدة أن علاقته مع إسرائيل لم تأتي على حساب دعمه للقضية الفلسطينية فهو يترأس لجنة القدس ويواصل دعمه السياسي والميداني للفلسطينيين والرباط لم تستغل هذا الملف ضد الجزائر في أي من تصريحاتها الرسمية بل تتجنبه حرصًا على روابط الاخوة والجوار وعدم التصعيد ويبدو انه من الواضح أن قضية التطبيع تستخدم في الجزائر كغطاء دعائي لإخفاء حسابات سياسية أعمق وليست مبررً حقيقيً لرفض الحوار أو واستمرار قطع العلاقات الدبلوماسية التي جاءت بقرار أحادي في خطوة فاجأت المجتمع الدولي وعمقت الشرخ السياسي بين الجارتين
نداء الملك المغربي محمد السادس الأخوي والمفتوح لتغليب صوت العقل على منطق الخلافات والقطيعة يمثل بارقة أمل جديد وواقعية لتحقيق مصالحة تاريخية وانفراج حقيقي إذا ما توفرت الإرادة السياسية لدى الطرفين وعلى الخصوص في الجزائر ومن أبرز الخطوات الممكنة للسير في هذا الاتجاه لتجسير الهوة بين البلدين إطلاق حوار مباشر دون شروط مسبقة وتأسيس آلية ثنائية دائمة لتدبير القضايا العالقة واستئناف التعاون الاقتصادي والإنساني يبدء بفتح الحدود وتسهيل تنقل الأسر وإحياء مشروع الاتحاد المغاربي باعتباره الإطار الطبيعي لإمكانية تقارب الدول الخمس
في هذا الظرف الدولي الدقيق يتوجه العالم نحو بناء التكتلات الاقتصادية والأمنية ولا يجوز أن تظل الجزائر والمغرب في عزلة مفتعلة عن بعضهما البعض في منطقة تعج بالتحديات الإقليمية وتصاعد التهديدات الأمنية في الساحل والصحراء وتفاقم التوترات الجيوسياسية في المتوسط حيث تطرح هذه الدعوة الملكية الجادة سؤالًا وجوديًا لماذا تقابل نداءات المغرب للمصالحة بهذا القدر من التجاهل وعدم الاهتمام وهل بقي هناك أفق حقيقي لتجاوز الخلافات المتجذرة بين البلدين
من الناحية التحليلية نلاحظ وجود حسابات جزائرية معقدة يمكن من خلالها فهم الموقف الجزائري بأنه امتداد لخطاب سياسي داخلي يوظف ملف العلاقات مع المغرب في سياق شرعنة السلطة القائمة إذ يتم تصوير المغرب إعلاميًا ورسميًا كتهديد دائم وهو ما يسهل استثماره لتوحيد الجبهة الداخلية وتبرير بعض السياسات القمعية أو الاقتصادية التي يعاني منها الشعب الحزائري
ملف الصحراء المغربية يمثل نقطة توتر محورية بين البلدين إذ تصر الجزائر على دعم جبهة البوليساريو رغم أن الأمر كما اسلفنا يتعلق بنزاع إقليمي تعالجه الأمم المتحدة حيث يميز المغرب بين الخلافات الإقليمية التي تعالج دوليًا وبين العلاقات الثنائية التي يجب أن تبنى على الاحترام المتبادل لكن في الواقع الامر لا يتعلق بالموقف الجزائري في الدفاع عن ” حق تقرير المصير” بقدر ما يرتبط بموازين قوى إقليمية ومحاولة إضعاف الدور المغربي المتنامي في القارة الإفريقية إضافة إلى ذلك تتوجس الجزائر من علاقات الرباط المتقدمة مع قوى دولية مثل الولايات المتحدة وإسرائيل والصين وهو ما تعتبره تهديدًا لمجالها الجيوسياسي في وقت تعاني فيه من عزلة دبلوماسية نسبية ومحدودية في أفق الإصلاح الداخلي ولا زالت الجزائر ترفض فصل ملف الصحراء المغربية عن العلاقات الثنائية وتصر على ربط أي تقارب بالتخلي المغربي عن مواقفه السيادية وهو أمر مرفوض ومخالف للمنطق الدبلوماسي المعهود
الماضي مرأة الحاضر كما يقولون ومن ينسى أن المغرب كان أول من وقف إلى جانب الجزائر في حربها ضد الاستعمار وفتح أراضيه واحتضن قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية وشارك شعبه في دعم القضية الجزائرية ماديًا ومعنويًا ومن يتجاهل ايضا أن ( مدينة وجدة ) المغربية كانت القاعدة الخلفية للثوار وأن آلاف المغاربة ساهموا في معركة الاستقلال الجزائري ولا يجوز أن تنسى هذه الحقائق في لحظة انغلاق إيديولوجي لم تعد له مبررات في القرن الـ 21 كما لا يعقل أن تتنكر القيادة الجزائرية لهذه المواقف التاريخية خاصة وان نداء العاهل المغربي الجديد ليس مجرد مبادرة سياسية بل هو صوت إنساني تاريخي وأخوي يخاطب ضمير الأمة المغاربية بأسرها ويضع مصلحة الشعبين فوق كل الحسابات الظرفية والاعتبارات السياسية
منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش سنة 1999 اتسم الخطاب الدبلوماسي المغربي تجاه الجزائر بثبات استراتيجي نادر في السياسة الخارجية ولم يسجَّل أي خطاب عدائي صادر عن أعلى سلطة في المملكة بل كانت معظم الرسائل الرسمية تدعو إلى تجاوز رواسب الماضي وبناء مغرب عربي موحد بالتفاهم والتعاون والحوار
رغم سوداوية المشهد بين الدولتين يبقى السؤال الذي يطرح نفسه هل من طريق او سبيل نحو المصالحة نقول بكل رجاء وامل نعم مستندين الى منطق التاريخ والجغرافيا والدين المشترك الذي يفرض ضرورة تجاوز الجمود والسعي للمصالحة بين المغرب والجزائر ولا يجب أن تكون مجرد مجاملة دبلوماسية بل خيارً استراتيجي يفرضه منطق العقل والمصلحة المشتركة فالتاريخ لا يرحم وشعوبنا تستحق أكثر من خلافات صُنعت في دهاليز السياسة المظلمة وسيأتي يوم لا محالة يسأل فيه الجميع من استجاب لنداء الأخوة ومن اختار العزلة ومن سعى للتكامل ومن حاصر نفسه في خطاب الاستعداء والتاريخ وحده ايضا سيحكم ويحاكم وعليه ستبقى يد المغرب ممدودة تنتظر الرد والجزائر مدعوة للإجابة العاجلة
حتى ذلك الحين سيبقى نداء المصالحة المغربي ثابتًا في لهجته ومتكررًا في توقيته ومتسقًا في مضمونه ما يعكس رغبة ملكية استراتيجية في محاولة كسر جدار التوتر بين بلدين يجمعهما التاريخ والمصير المشترك والمؤسف حقا أن هذه الدعوات رغم وضوحها لم تلق بعد استجابة علنية من الجانب الجزائري مما يبقي آفاق التقارب رهينة حسابات داخلية وإقليمية معقدة
في النهاية نؤكد ان تجاوز حالة الجمود لا يتطلب فقط خطابًا حسن النية بل أيضًا لابد من توفر إرادة سياسية متبادلة ومبادرات عملية تترجم الأقوال إلى خطوات ملموسة فالمنطقة المغاربية لا تحتمل مزيدًا من التشرذم والمستقبل إن كتب له أن يُبنى على أسس التعاون سيبدأ بلحظة شجاعة من الطرفين يختار فيها السلام لا الاصطفاف والوحدة لا الانقسام وان لا يبقي طرف يبادر مرارًا واخر يقابله بالرفض أو الصمت أو التصعيد المعاكس وحتى اليوم المغرب يواصل مد يده وإرسال إشارات إيجابية وفي كل مناسبة وطنية كبرى يحرص العاهل المغربي على توجيه رسائل مباشرة أو ضمنية إلى الجزائر تتمحور في مجملها حول دعوة صريحة لفتح صفحة جديدة بين البلدين وفي خطاب عيد العرش لهذا العام جدد الملك محمد السادس نداء المصالحة في خطوة تعكس تمسك المغرب بخيار الحوار وتجاوز الخلافات بينما الجزائر ترفض التجاوب معها ما يجعلها موضوعيًا الطرف الذي يعطّل فرص المصالحة التاريخية وفي المقابل يظل السؤال مطروحًا: هل ستتلقف الجزائر هذه المبادرة أم أن الجمود سيظل سيد الموقف في علاقات متوترة تعد من أعقد الملفات في المنطقة المغاربية
خلاصة الرأي : لقد آن الأوان أن تخرج القيادة الجزائرية من دائرة الحذر السياسي إلى فضاء الشجاعة التاريخية. فالدعوة المغربية ليست ضعفًا بل قوة ناعمة نابعة من إيمان الدولة المغربية بوحدة الشعوب لا تفتيتها وليس هناك لحظة أفضل من الآن وسط التغيرات الإقليمية الكبرى للرد على هذه اليد الممدودة بموقف شجاع يتجاوز الحسابات الضيقة نحو أفق مغاربي مشترك فالأخوّة أقوى من المناصب والخطابات العدائية المتواصلة
باحث وكاتب مختص في الشؤون السياسية