الذكرى الأولى لرحيل هنية من سرّب مكانه ومن ساهم في اغتياله ؟

مهدي مبارك عبد الله

سنة كاملة مرت على غياب القائد الشهيد اسماعيل هنية ( ابو العبد ) منذ اغتياله في 31 يوليو 2024 في العاصمة الايرانية طهران حيث كان في زيارة رسمية للعاصمة الإيرانية طهران لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان بصفته رئيس للمكتب السياسي لحركة حماس هذا الرجل المناضل والحر الشريف الذي غادرنا بجسده ولم تغب عنا ظلاله ولا زال طيفه حاضرا بيننا في مواقفة الراسخة وسيرته العطرة ومع مرور الايام لا تزال الأسئلة المحيرة تلاحقه في مرقده الطاهر حول ( من سرّب مكانه ومن ساهم في اغتياله ) وهل كان رحيله مجرد حدث عابر عادي أم مؤامرة معقدة نفذت وفق مخطط اجرامي محكم

هنية في الواقع الفلسطيني المقاوم لم يكن مجرد اسم سياسي بل كان عقلً يدير دفة السفينة بحكمة واقتدار وصوتًا يوازن بين التهور والشجاعة ونهجا يساير الاحداث بما يفيد القضية الفلسطينية حيث ولد في قلب العاصفة ولهيب النار وفي هذا المقال سنحاول التعمق في لغز رحيله وتأثيره على المشهد السياسي وكذلك مصير رفاقه والنهج القيادي المتزن الذي اتبعه وحمله كنموذج وطني وشعبي جامع بحضوره المسؤول والمبادر في مختلف المحطات الوطنية

منذ ظهور هنية على الساحة النضالية الفلسطينية شكل حالة فريدة في المشهد السياسي فلم يكن الرجل صداميًا ولا تصالحيًا بالمطلق بل كان أقرب إلى ” السياسي البراغماتي ” القادر على المناورة دون التفريط بالثوابت وتهدئة الخصوم دون إضعاف موقعه وقد ترك خلفه خطًا سياسيًا حاول التوازن فيه بين ثنائية المقاومة والسياسة والالتصاق بالشارع مع الانخراط في المؤسسات والاستقلالية عن المحاور دون عداء معلن لها وهذا النهج رغم تعقيداته سمح له بأن يحافظ على شرعية مزدوجة داخل الحركة التي ينتمي إليها وفي نظر قطاعات واسعة من الشارع الفلسطيني

مع اللحظات الأولى لرحيله وفي داخل أروقة حركة حماس وباقي فصائل المقاومة وقع الخبر على الجميع كصاعقة خاصة وان الرجل لم يكن على فراش الموت ولا محاطًا بأجهزة طبية او تقارير سريرية تنذر بقرب رحيله الا انه سقط وانتهى كل شيء ولم يجرؤ أحد على الحديث عن خلافته أوعن الفراغ من بعده لأن الجميع كان يدرك ان هنية لا يورث بسهولة ولكن سرعان ما برزت مخاوف من وجود تسريبات داخلية قد تكون ساهمت في تعطيل آليات الحماية أو تسهيل كشف مكانه كما فتح الباب أمام فرضيات امنية متعددة لم تتضح معالمها بعد حتى اليوم

الحقيقة الثابتة انه مهما تنوعت القراءات او توحدت المعاني يبقى الاجماع العام على ان رحيل هنية لم يكن حدثًا محليًا وسرعان ما انتشر على شاشات كبرى وصحف عالمية تحت عناوين لافتة سيما وانه كان رجل التوازنات الذي لم يرضِي الجميع لكنه لم يخسر أحدًا تمامًا وهو ايضا السياسي الذي فهم تعقيدات المنطقة دون أن يضيع فيها وامام ذلك جاءت معظم البيانات الرسمية من بعض الدول الإقليمية مقتضبة ومحسوبة وفي بعض العواصم غابت التعازي لكن حضرت الحسابات الدقيقة حول من سيملأ الفراغ بعده وهل سينهار النهج والتوازن الذي بناه وشكله برؤية متماسكة في بحر متلاطم الامواج وكل التحليلات تقول ان فلسطين خسرت باستشهاده قائداً وطنياً كان عنواناً رفيعا للوحدة والثبات وقامة وطنية صلبة آمنت بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة والعودة والحرية

ما ميز شخصية هنية خلال مسيرته التنظيمية ان صوته كان يعلو دائماً من أجل وحدة الصف الفلسطيني وتعزيز مقاومته وتغليب التناقض الرئيسي مع الاحتلال بعيداً عن الاصطفافات الضيقة أو الحسابات الفئوية ولم يكن اسلوبه الخطابي المثير وقدرته على التجييش واستعراض القوة وحدها الاساس في بناء شخصيته بل كانت ايضا قدرته الفائقة بالسير بين الألغام دون أن تنفجر تحت قدميه وهو يقدم نموذجً فريد وازن فيه بين العمل المقاوم من دون تهور وبين الانفتاح السياسي بدون استسلام حيث حصل على الشرعية الشعبية دون صدام مع البنى التنظيمية المتنافسة وهذا المزيج النوعي جعله مقبولًا داخل دائرته الحركية وبقي محسوبًا خارجيًا كطرف يؤخذ على محمل الجد حتى من قِبل خصومه

بعد رحيل هنية انقسم المقربون منه وساد سؤال تنظيمي حرج هل يحملون الراية أم يضيعون البوصلة وقد بدا المشهد أكثر اضطرابًا حيث برزت تباينات داخل دوائر القرار الحمساوي التي ورثت موقعه بعض رفاقه حاولوا الحفاظ على روحه السياسية فيما فضل آخرون الانخراط في مسارات أقل تماسكًا مع إرثه ويمكن تلخيص تموضعهم بعد عام من الغياب في ثلاث اتجاهات رئيسية اولها تيار الوفاء لنهج هنية كان يسعى للحفاظ على خطابه السياسي المتزن والمتدرج وهذا التيار لم يمانع في الحوار لكنه تمسك بمبدأ الندية وتيار ثاني اتحه نحو الواقعية الصدامية حيث تبنى مواقف أكثر حدة تجاه الخصوم الإقليميين والد وليين وظل يرى أن المرحلة تفرض مواقف أكثر صلابة اما التيار الثالث فقد سلك طريق المساومات والاستعداد لتقديم التنازلات والتهدئة المفرطة والبحث عن توافقات ولو على حساب الثوابت التي كان هنية حريصًا على صيانتها واللافت هنا أن غياب هنية لم يُنتج قائدًا بديلًا يحمل كاريزماه أو يتمسك بمنطقه السياسي ما جعل المؤسسة السياسية التي كان جزءًا منها عرضة للتذبذب بحكم قوة مكانته التي تخطّت حدود التنظيم ليغدو عنواناً للإخلاص للمشروع الوطني الفلسطيني وللقضية بكل أبعادها التحررية والإنسانية

السؤال البديهي الذي ما زال يُطارد الذاكرة هو كيف وصلت إسرائيل إلى هنية رغم انه كان محاط بالسرية الكاملة والتنقل المنظم والمحسوب والانضباط الأمني المكثف فبعض التقارير الاستخباراتية كشفت لاحقًا أن استهدافه لم يكن وليد مصادفة بل نتيجة تراكم طويل من الرصد والملاحقة الدقيقة والمخابرات الإسرائيلية ( الموساد ) استثمرت سنوات في تتبعه مستخدمة أحدث تقنيات التنصت والمراقبة بالإضافة إلى اختراق بعض الدوائر المحيطة به حيث تشير مصادر مختصة إلى وجود عدة ثغرات في حمايته الأمنية وهنالك أشخاص داخليين قد يكونون قدموا معلومات حاسمة قبل العملية كما ان اسلوب الاغتيال الممنهج يدل على أنه كان قرارًا استراتيجيًا من أعلى المستويات الاسرائيلية لاستئصال عقل سياسي يصعب تعويضه وبالمتابعة لمجريات الأحداث تبين لنا أن التسريبات الداخلية والاختراقات الأمنية كانت عاملًا حاسمًا في تمكين إسرائيل من الوصول إليه وهذا يطرح تحديًا كبيرًا أمام التنظيمات السياسية والعسكرية بضرورة تعزيز أنظمة الأمن السيبراني والاستخباراتي وتحسين آليات الثقة والرقابة الداخلية لمنع تكرار مثل هذه الحادثة

فيما يتعلق بالجماعات التي كانت وراء تسريب مكان اقامة هنية في مجمع الضيافة التابع للحرس الثوري والتي مهدت لاغتياله فقد تعددت الروايات حيث ذكرت مصادر روسية أن مسؤولين أمنيين ( أرمن ) قد تورطوا في تمرير معلومات دقيقة عن تحركات هنية مقابل امتيازات سياسية خلال زيارة رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان لطهران في المقابل لم تستبعد مصادر استخباراتية اخرى أن يكون الاختراق قد تم من داخل إيران نفسها عبر تسريب أمني من أحد عناصر الحرس الثوري أو أحد موظفي الضيافة فيما اعتُبر الحدث إخفاقً أمنيً كبيرً في واحدة من أكثر المناطق تحصينً في العاصمة الإيرانية

أما بخصوص تنفيذ العملية فقد تبنته إسرائيل رسميًا بعد أسابيع من الاغتيال عبر اعتراف وزير الدفاع يوآف غالانت الذي اكد أن جهاز الموساد هو من خطط ونفّذ العملية بدقة عالية في المقابل رجحت التحقيقات الدولية والإعلامية بأن عملاء من داخل الحرس الثوري الإيراني جندوا سرا قاموا بزرع المتفجرات داخل الغرفة المخصصة لهنية قبل أن تفجر عن بعد عقب تأكيد وجوده وقد وصفت العملية بانها الأعقد منذ اغتيال قاسم سليماني حيث كشفت شبكة استخباراتية مزدوجة عن وجود ثغرات عميقة في قلب المنظومة الأمنية الإيرانية ما دفع طهران إلى شن حملة اعتقالات واسعة شملت أكثر من عشرين موظفً أمني وإداري من المقربين من دائرة الضيافة الرئاسية

لا شك بان غياب هنية ترك فراغًا كان له صدى واسع في المشهد الإقليمي حيث حاولت عدة دول استغلال هذا الفراغ لتحقيق مصالحها الخاصة بزيادة المناورات السياسية وتصعيد التوترات في بعض المناطق وهنالك بعض التحليلات التي اشارت إلى أن إسرائيل وبعض الدول الإقليمية رأت في رحيله فرصة لإعادة ضبط موازين القوى حين كانت الفصائل الفلسطينية تحاول استعادة توازنها في ظل تغير الظروف

بصورة عامة اغتيال هنية لم يكن نقطة النهاية بل البداية لمرحلة جديدة من الصراع على النفوذ داخل التنظيمات السياسية والفصائل المسلحة فالحلفاء حاولوا الحفاظ على الوحدة والنهج فيما بدأ الخصوم الداخليون والخارجيون في استغلال التصدعات ما أدى إلى حدوث انقسامات علنية أضعفت كثيرًا من جهود المقاومة والتفاوض وقد اثر اغتيال بشكل كبير على حركة المقاومة وبينما تضاءلت بعض القدرات التنظيمية ظل النهج السياسي الذي تبناه هنية يمثل مرجعية داخلية وخارجية لكن السؤال هل يكفي هذا النهج للحفاظ على وحدة الفصائل المختلفة وتوحيد صفوفها في وجه التحديات

بأمانة علمية ان واقع ما بعد هنية لم يكن مجرد فراغ قيادي بل هو غياب كامل للحكمة السياسية التي كان يزرعها في محيطه الحركي والتي تمثلت بالواقعية السياسية والبعد الشعبي والخطاب المبدئي والمرونة في الميدان وقد ادى هذا الغياب الى تصاعد التوترات الداخلية في مؤسسات صنع القرار وتراجع الخطاب الجامع لصالح خطاب أكثر فئوية أو اندفاعً كما ظهرت ضبابية في المواقف الإقليمية تجاه تحالفات معقدة والشارع الشعبي لم يبقَ صامتًا وفي كل مكان هنالك حنين واضح في مختلف الأوساط إلى مرحلة هنية باعتبارها أكثر استقرارًا ووضوحًا في الرؤية والعمل حتى وإن لم تكن خالية من الأخطاء فهل كان هنية مرحلة قيادية لن تتكرر أم هو نهج ينتظر من يحييه من جديد الجواب كالعادة لازال في الميدان

في هذه الذكرى العطرة نتوجه بتحية تقدير وإجلال إلى عائلة الشهيد هنية التي قدمت نماذج عظيمة في الصمود والتضحية وفقدت العشرات من أبنائها في مجازر حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة ومن بينهم كوكبة من أبناء وأحفاد القائد الشهيد ابو العبد وان منطق الوفاء لدمائه ومسيرته يتطلب مواصلة الطريق الذي سلكه وتعزيز أواصر الوحدة الوطنية التي عمل من اجلها على قاعدة الشراكة الكاملة والمقاومة بكل أشكالها وتغليب المصلحة الوطنية العليا فوق أي اعتبار ومواصلة النضال من أجل إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني ووقف الإجرام الصهيوني والتصدي لمخططاته التصفوية حتى تحرير الأرض والإنسان وتحقيق الحرية والعودة والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الوطني وعاصمتها القدس

خاتمة : الذكرى الأولى لرحيل هنية ليست مناسبة للبكاء على الأطلال ونكأ الجراح وتثوير الأحزان بل هي محطة لإعادة التموضع وتقييم ما تبقى من نهجه وامكانية تجديده دون تشويه ملامحه الاصلية سيما وان هنية غاب بجسده ولم تغب روحه ومساره واليوم لدينا فرصة مثالية للبحث عن الحقيقة المخبأة خلف رحيله فالذاكرة السياسية الفلسطينية الوطنية لا زالت ترفض أن ينسى وتصر على ضرورة كشف ( من سرّب مكانه ومن ساهم في اغتياله ) وبالتأكيد انه وفي زمن تتغير فيه المواقف والتحالفات يظل البحث عن عقل سياسي متزن بحجم القائد الشهيد هنية ضرورة ملحة لكل من يريد السلام والاستقرار في المنطقة ورغم مرور عام على الرحيل لا تزال ملامح هنية السياسية حاضرة في الخطابات واللقاءات وأحيانًا كثيرة في تفاصيل الغياب نفسه

باحث وكاتب مختص في الشؤون السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى