هذا ما وجه به الملك حكومة الخصاونة عام 2023 من أجل البترا ولم ينفذ…

كتب أ.د. محمد الفرجات

منذ ما يقارب العقد والنصف، حدد المخطط الشمولي الإستراتيجي لإقليم البترا (2012-2032) جملة من الرؤى الطموحة، كان أبرزها التوصية بتأسيس “شركة إدارة المقصد السياحي” – وهي الشكل التنفيذي لـما يُعرف دوليًا بمنظمة إدارة الوجهة السياحية (DMO). هذه الجهة، التي لم تر النور حتى الآن، كان يفترض أن تكون الذراع الاقتصادي والاستثماري لسلطة إقليم البترا التنموي السياحي، لتملأ الفراغ بين التنظيم الرسمي والعمل الميداني، وتدير الأزمات وتستقطب الاستثمارات وتروّج للوجهة عالميًا.

واليوم، بعد مرور أكثر من عشر سنوات، تأتي أزمة حرب غزة 2023 وتداعياتها الإقليمية كاختبار حقيقي ومؤلم لغياب هذا الكيان الحيوي. فقد شهدت البترا – التي كانت تستقبل قرابة المليون زائر سنويًا – انهيارًا شبه كلي في الحركة السياحية منذ 7 أكتوبر 2023، نتيجة المخاوف الأمنية والتحذيرات الدولية من السفر للمنطقة.

أزمة الحرب: وجه البترا المعتم بلا DMO

لو وُجدت منظمة DMO فعالة، كما اقترح المخطط الاستراتيجي، لكان بإمكانها تنفيذ سلسلة من الخطوات الحيوية للتقليل من أثر الشح السياحي، منها:

تحفيز السياحة المحلية والإقليمية عبر حملات موجهة بعناية.

تنويع المنتجات السياحية لتشمل السياحة البيئية والثقافية والداخلية.

إدارة الأزمة إعلاميًا وتسويقيًا من خلال رسائل طمأنة وتحديثات أمنية دقيقة.

تشغيل البنية السياحية لدعم أبناء المجتمع، وتوفير البدائل الاقتصادية للعاملين المتضررين.

لكن غياب هذه المنظمة ترك فراغًا بين السلطة والمؤسسات المحلية، في وقت كانت الحاجة فيه ماسّة للتنسيق والتحرك السريع.

مدينة أعمال سياحية: مشروع متجدد لم يُنفذ

في شباط 2023 تحدثت لجلالة الملك وسمو ولي العهد في وادي موسى عن مستقبل البترا وفقا للمخطط الشمولي الاستراتيجي الذي وضعناه عام 2012 (وتم تحديثه لاحقا)، وشرحت عن أهمية وجود مدينة أعمال سياحية، زواجت فيها بين رؤية المخطط الشمولي وقراءتي للحاجات السياحية في المدينة من أجل الاستدامة، وكنت قبل زيارة جلالته بأسابيع قد أطلقت هذا النداء بالإعلام.

حيث أنني كنتُ قد دعوت إلى تأسيس “مدينة أعمال سياحية” في وادي موسى، تجمع تحت مظلتها DMO التابعة لمفوضية البترا والقطاع السياحي الخاص (فنادق، مطاعم، جمعيات، أدلاء، جمعيات الحرف والسوفينير، نقل سياحي،…)، وذلك بهدف:

جذب رؤوس الأموال وتوظيفها في تطوير الأراضي وإنشاء مشاريع إنتاجية وسياحية.

تحسين جودة الخدمات ورفع كفاءة التشغيل.

تنويع الاستثمارات النوعية: قرى سياحية، مرافق ترفيهية، حاضنات أعمال، إنتاج صناعي خفيف وزراعي… إلخ.

إيجاد فرص عمل للشباب وتنشيط الاقتصاد المحلي.

وقد استند هذا الطرح إلى نجاح تجربة “جمعية عاصمة الأنباط”، وهي مبادرة مجتمعية ناجحة أُسسناها عام 2011 بالتعاون بين المفوضية وأبناء المنطقة، وحققت أثرًا ملموسًا في توفير فرص العمل وتعزيز مشاركة المجتمع المحلي.

لمست إرتياح جلالة الملك للطرح، وبعد اللقاء قدمنا المقترح مكتوبا للديوان الملكي العامر وفقا لطلبهم، ووصل للحكومة مع مجموعة من التوصيات الناتجة عن زيارة جلالة الملك للبترا.

لكننا – مرة أخرى – لم نشهد أي تنفيذ حقيقي لتلك الرؤية، على الرغم من أن المخطط الشمولي ذاته أفرد خطة تنفيذية واضحة لذلك، تتضمن استراتيجيات محلية تنموية مخصصة لكل من قرى وادي موسى، الطيبة، أم صيحون، البيضا، راجف، ودليغة.

الربط بين DMO ومدينة الأعمال: التكامل الغائب

منظمة إدارة الوجهة (DMO) ومدينة الأعمال السياحية ليستا فكرتين منفصلتين، بل تكامليتين. فـ DMO هي من يفترض أن:

توجد البيئة الاستثمارية والترويجية التي تجذب رؤوس الأموال نحو مدينة الأعمال.

تعمل كجهة تنسيق بين المشاريع السياحية والبنية التحتية والتنظيم الإداري.

توفر إطارًا شفافًا ومهنيًا لتسويق المنتج السياحي الأردني في البترا، داخليًا وخارجيًا.

تدير الأزمات، وتستبقها، وتعيد التموضع سريعًا.

وجود هذين الكيانين، معًا، يشكل مظلة استراتيجية تجعل من البترا منطقة محمية اقتصاديًا وسياحيًا في وجه الأزمات، ويعزز مناعتها الداخلية ويمنحها قدرة على إعادة التكيف حتى في أحلك الظروف.

توصيات عملية لما بعد الأزمة:

1. إعادة إحياء توصية إنشاء DMO كجهة مستقلة ضمن المفوضية، مع هيكل إداري محترف وشراكة حقيقية مع القطاع الخاص.

2. إطلاق شركة “مدينة الأعمال السياحية في وادي موسى” برأسمال مختلط حكومي-خاص، مع طرح أسهم محلية.

3. تطوير خطة مرونة واستجابة سريعة للمخاطر السياحية، تضم حملات إعلامية، حوافز مالية، ونماذج تشغيل بديلة.

4. تحفيز دور الجمعيات المجتمعية الناجحة وتوسيع نطاقها عبر التدريب والتمويل.

5. إعادة تأطير رؤية 2032 للبترا، لتكون أكثر واقعية في ظل التغيرات السياسية والمناخية والاقتصادية.

إن التحدي الأكبر لا يكمن في بناء بنى تحتية أو استقبال أفواج جديدة، بل في بناء نموذج إدارة مرن وفعال ومستدام. ولعل الفرصة لا تزال سانحة لنعيد النظر فيما كتب قبل أكثر من عقد، ونترجمه من صفحات الدراسات إلى واقع ملموس.

فالبترا لا تحتاج فقط إلى زوار، بل إلى رؤية… ومؤسسة تدير هذه الرؤية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى