هل جاء ويتكوف الى غزة ليشهد الحقيقة ام ليغطي الجريمة ؟

مهدي مبارك عبد الله

في خطوة غير متوقعة من حيث التوقيت والمضمون قام ستيف ويتكوف رجل الاعمال واحد اشهر المقربين من الرئيس الامريكي دونالد ترامب بزيارة خاطفة لقطاع غزة يوم الجمعة 1 أغسطس 2025 برفقة السفير السابق مايك هوكابي استغرقت أكثر من خمس ساعات وقد حظيت باهتمام واسع ليس فقط بسبب طبيعة الشخصية الزائرة بل ايضا لما اثارته من اسئلة عميقة حول اهدافها الحقيقية وتوقيتها وجدواها في ظل ازمة انسانية غير مسبوقة يعيشها اكثر من مليوني فلسطيني محاصرين في القطاع بين التدمير والتجويع والابادة منذ ما يقارب العامين عندما تأتي الإنسانية بعد فوات الكارثة وتصبح واجهة للحسابات السياسة

الاعلام الامريكي المركز حاول ترويج الزيارة بانها تأتي لتقييم الوضع الانساني على الارض وتأكيد التزام واشنطن بإيصال المساعدات الا ان جوهر الزيارة بدا اكثر تعقيدا من ذلك ويصعب فصله عن السياق السياسي المتوتر في المنطقة والانقسامات الداخلية في الولايات المتحدة والضغوط الدولية المتزايدة على اسرائيل بسبب ما يوصف بانه استخدام ممنهج للتجويع كسلاح حرب والسؤال الابرز المطروح هل جاء ويتكوف فعلا لغزة ليقيم المأساة ويشاهد الحقيقة بعينيه ام لتلميع صورة واشنطن الباهتة ومحاولة اخفاء آثار الجريمة الجماعية التي ترتكبها اسرائيل بوحشية منظمة والتي تتكشف يوما بعد يوم في الشوارع والخيام والمدارس والمستشفيات وفي كل ارجاء غزة

المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف هل كان فعلًا بحاجة إلى زيارة غزة ليدرك أن هناك تجويعًا جماعيًا وإبادة انسانية بطيئة ترتكب أمام أعين العالم
وهل كان بحاجة ايضا لرؤية الجوع بعينه وهل كانت هناك ضرورة حقيقية لهذه الزيارة الجواب من حيث المبدأ لا فالأرقام لا تحتاج إلى تأشيرة والتقارير الأممية التي توثق انهيار الحياة في القطاع المحاصر لم تكن يومًا سرًا فمنذ شهور والعالم كله يشهد بالصوت والصورة كارثة إنسانية مفجعة باتت واضحة ومثبتة بالتقارير اليومية الصادرة عن عدة منظمات دولية ابرزها الاونروا ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الاغذية العالمي وهنالك الآلاف من الصور والعشرات من التقارير لحقوقية الدولية التي تؤكد ان غزة تواجه مجاعة فعلية حتى وان لم تعلن رسميا وفق التعريف التقني ولا زالت المجاعة في غزة تترنح بين إنكار ويتكوف وصراخ الجوعى

ما اضافته زيارة ويتكوف انها ساهمت في تأجيل الاعتراف بالكارثة بها واعادة صياغة سردية الحدث بما يتلاءم مع الرواية الامريكية غير المنصفة التي تحاول التنصل من مسؤولياتها كداعم اساسي للحرب والحصار والتجويع وشريك مباشر في تمكين اسرائيل من فرض نظام مساعدات ميداني يوصف من قبل مسؤولي الامم المتحدة بانه مصيدة موت ( الكاميرا زارت غزة لكن الحقيقة غابت )

من خلال سرد الاحداث لا يمكن فصل توقيت الزيارة عن السياق الاقليمي والدولي فهي تأتي في لحظة حساسة جدا داخليا حيث تواجه واشنطن حملة غضب شعبي متصاعدة من الجاليات العربية واللاتينية والسود الذين يرون ان الدعم الامريكي المطلق لإسرائيل بات وصمة عار اخلاقية في السياسة الخارجية الامريكية وعلى الجانب الدولي لا زالت تتصاعد الدعوات في الامم المتحدة ومحكمة العدل الدولية لمحاسبة اسرائيل على ما يوصف بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية تمارس في غزة

ميدانيا تتعرض مراكز توزيع المساعدات لهجمات إسرائيلية متكررة ما حولها الى فخاخ للموت بدلا من ان تكون نقاط انقاذ وسط استمرار عمليات الاستهداف والقنص وحرمان مئات الآلاف من الوصول للطعام والدواء ومنذ شهور يعيش القطاع المحاصر واحدة من اسوأ الازمات الانسانية في العصر الحديث فصور الاطفال الجياع وحالات الموت المتكررة يوميا لم تكن بحاجة الى شاهد جديد بقدر حاجتها الى من يتحرك بسرعة وجدية لإنقاذ تلك الارواح من الموت المنتظر وضمن هذا السياق تبدو زيارة ويتكوف اشبه بمحاولة تهدئة سياسية تهدف الى امتصاص الغضب الدولي واعادة تقديم صورة اكثر انسانية للدور الامريكي دون المساس بجوهر دعمها غير المشروط لإسرائيل هل تحاول أمريكا إنقاذ إسرائيل من السقوط الأخلاقي

بعد جولته العاجلة في القطاع صرح ويتكوف انه لم يشهد مجاعة رسمية ما اعتبره مراقبون استمرارا لمحاولة واشنطن تقويض المطالبات الاممية بإعلان المجاعة لان ذلك سيتطلب تحركات دولية ملزمة بما في ذلك فتح ممرات انسانية قسرية وربما فرض عقوبات على اسرائيل وتلك التصريحات في جوهرها لا تهدف الى توصيف الواقع بقدر ما تسعى الى هندسة الانطباع العام فهي تبني رواية مضادة لما تنقله وسائل الاعلام العالمية وتقارير المنظمات الاممية التي تتحدث عن استشراء المجاعة وتوثق حالات وفاة بسبب الجوع ونقص الغذاء ( مجاعة معلنة وضمير غائب )

بكل صفاقة وكذب وتضليل ظهر ويتكوف امام الكاميرات ليعلن انه لم ير مجاعة في غزة ليفتح المجال امام تسويق دور امريكي جديد يقدم نفسه كمنقذ بدلا من ان يكون موضع اتهام ومن المرجح ان تكون الزيارة جزءا من استراتيجية اوسع لدى الجمهوريين لإعادة تشكيل صورة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط كطرف حريص على حقوق الانسان في محاولة مكشوفة لموازنة سجلها السياسي والعسكري في دعم اسرائيل وهذا ما يعزز فرضية ان زيارة ويتكوف ليست انسانية خالصة بل جزء من حملة علاقات عامة ذات ابعاد سياسية وانتخابية واضحة ( زيارة لم تشبع جائعًا ولم توقف رصاصة )

الحقائق الميدانية اشارت بشكل فاضح الى ان زيارة ويتكوف حتى الآن لم تشير الى اي تحول استراتيجي في موقف واشنطن من القضية الفلسطينية او من حصار غزة بل على العكس فإن المساعدات التي رافقت زيارة ويتكوف وصلت عبر تنسيق مباشر مع الجيش الاسرائيلي وضمن نظام توزيع ما يزال متهما بكونه سببا في قتل المدنيين عند نقاط استلام المعونات وبالتالي فإن اي حديث عن نقلة انسانية في السياسة الامريكية يبقى محدودا ضمن الحسابات الاعلامية دون ترجمة سياسية ملموسة على الارض كما يبدو انها محاولة للالتفاف على الاصوات الدولية المتصاعدة المطالبة بوقف الحرب وانهاء المجاعة وفتح ممرات انسانية فورية كما وصفت الزيارة بانها انسانية بوجه سياسي فبيح

زيارة ويتكوف بكل تفاصيلها لم تكن لحظة اكتشاف بل لحظة تبرير لحرب ومجاعة وابادة جماعية ونتائجها لم تكن على مستوى ما يدعيه الخطاب الانساني المرافق ورغم إقراره بالوضع الإنساني الحاد أكد ويتكوف أن ما شاهده ( لا يرقى إلى تعريف المجاعة وفق المعايير الفنية للأمم المتحدة ) وما تبع ذلك من صمت للوفد الزائر عن قصف مراكز المعونات وقتل الاطفال جوعا وتحويل قوافل الغذاء الى ساحات دم مما جعل الكثيرين يتساءلون من يخدم هذا الحضور الامريكي وهل يمكن لمبعوث امريكي ان يقول الحقيقة وهو يغمض عينيه عنها بشهادة غير بريئة من خلال قيامة بمبادرة انسانية بتغطية سياسية لا تسعى لتغيير واقع غزة بل لتغيير سردية واشنطن عما يجري فيها

المساعدات الانسانية التي وصلت بالتزامن مع زيارة ويتكوف لم تحدث فرقا جذريا في الواقع الانساني على الارض لان التمويل الأمريكي للمساعدات لا يزال محدودًا وموجهًا لمؤسسات غير محايدة بدلًا من الأمم المتحدة أو وكالات إنسانية دولية ذات حيادية وخبرة حيث استمرت شكاوى المنظمات الاغاثية من العراقيل الاسرائيلية التي تمنع دخول الامدادات او تتحكم في مسارها وهو ما ابقى مراكز التوزيع في مرمى النار والناس في طوابير الانتظار حيث الجوع والخطر معا يترصدان بهم وفي الوقت الذي يقتل فيه فلسطينيون وهم يحاولون الوصول الى كسرة خبز يظهر ويتكوف مبتسما امام الاعلام الامريكي يتحدث عن معاينة الوضع لصالح اسرائيل ودون اي اثر لتحرك سياسي ملموس يضمن حماية المدنيين او محاولة تعديل السلوك الاجرامي للحليف الاسرائيلي

الزيارة بمجملها مصممة لتهدئة الغضب الدولي وتخدير انتقادات الفشل الإنساني لكنها تفتقر إلى مقومات التغيير الحقيقي وبدون استراتيجية مستدامة او حلول جذرية وهي بالمحصلة لحظة إعلامية براقة وواجهة لا أكثر كما تبدو كأنها محاولة مراوغة ذكية من واشنطن لتصوير أميركا كمنقذ في مأساة شاركت في صناعتها ورغم اعتبارها عملية انقاذية الا انها في الواقع ظهرت اقرب الى واجهة سياسية مصقولة تهدف الى تجميل الدور الامريكي المرفوض وتخفيف الضغط عن اسرائيل واعادة رسم صورة واشنطن كراع للسلام بدلا من كونها طرفا منحازا في نزاع دموي مستمر وهي زيارة مشبوهة طرحت الاسئلة اكثر مما قدمت الاجوبة واثارت الشكوك اكثر مما فتحت الآمال وفي النهاية بقيت المجاعة في غزة واقعا تتحدث عنه بطون الاطفال الخاوية اكثر مما تفعل كاميرات المسؤولين الزائرين

للأسف الشديد بدل ان يكتشف ويتكوف الحقيقة بدى وكأنه يحاول تغطية جرائم القتل والتدمير الحصار والتجويع والتواطؤ السياسي التي تتكشف فصولها امام اعين العالم بينما تختبئ العدالة الامريكية خلف التصريحات والابتسامات الدبلوماسية الصورية ولم تتخذ واشنطن أي خطوة جادة للضغط على إسرائيل لوقف الحرب وفتح المعابر ومنع استهداف المدنيين أثناء توزيع المساعدات وإنهاء ( شراكة القتل التي تتم في وضح النهار ) بغطاء سياسي دولي وللحقيقة ان كل ما تغير خلال الزريارة وبعدها هو فقط نبرة تصريحات ترامب الأخيرة التي أظهر فيها اعلاميا قلقًه واهتمامه بالأطفال المجوعين لكنها بقيت خالية من أي التزام عملي يمكن البناء عليه سياسيًا أو إنسانيًا والمساعدات ما زالت مرهونة بالإذلال والقهر والموت والسياسة الأميركية في جوهرها ما زالت قائمة على دعم وحماية الاحتلال بدل محاسبته ووقف العدوان والمجاعة والموت

ختاما : في ظل غياب ممرات إنسانية آمنة واستمرار الهجمات وسط محاولات الناس الوصول إلى المساعدات تتعمق المأساة يومًا بعد يوم وبينما يواجه الفلسطينيون خطر الجوع والموت تتصاعد الدعوات لإعادة النظر في آليات التوزيع وضمان حماية المدنيين وتحمل المجتمع الدولي لمسؤوليته في وقف ما بات يُوصف بأنه مجزرة إنسانية معلنة فان عدم إعلان امريكي رسمي عن المجاعة والاصرار الحصري على المعايير الفنية البحتة مقابل واقع ميداني تتجلى فيه كل علامات الانهيار الإنساني لا ينفي واقع الجوع والحرمان الحاد الذي تعيشه آلاف العائلات الفلسطينية

باحث وكاتب مختص في الشؤون السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى