“في فلسفة التعديل الوزاري الدولة التي لا تجامل”

د. عمّار محمد الرجوب
في كل مرة يعيد فيها الوطن رسم ملامح أدواته التنفيذية، فإننا لا نكون أمام مجرّد تعديل وزاري عابر، بل أمام لحظة وعيٍ سياسي عميق، تُعيد فيها الدولة تعريف ذاتها وتقييم بنيانها الإداري. هو إعلان ضمني بأن الإصلاح لا يُمكن أن يتم بأدوات منهكة، ولا يمكن أن تُبنى الرؤية الجديدة بسواعد ترتجف من ثقل المواربة أو المجاملة.
ما شهدناه اليوم في تعديل حكومة الدكتور جعفر حسان لا يُقرأ بلغة الأسماء ولا بحسابات التوزيع، بل يُقرأ في سياقه الأعمق كتحول في الوعي السياسي الأردني، وكخطوة تحمل ملامح الجدية في أن الوطن لا يحتمل ترف الانتظار، ولا يقبل التعايش مع رتابة الأداء ولا مع موظفين يظنون أن المناصب حظوة لا مسؤولية.
الدولة التي تسير نحو التحديث لا تسمح بأن تُستهلك أدواتها في المشهد ذاته لسنوات، بل تجدد جلدها، وتفتح نوافذ التقييم على اتساعها، وتعلن بصوت واضح أن معيار الاستمرار هو الإنجاز لا الاسم، والكفاءة لا القرب، والأثر لا الشكل.
وفي هذه اللحظة، نستحضر بعمق عبارة جلالة الملك عبدالله الثاني حين قال:
“الوزير إما أن يعمل أو يرحل”،
عبارة تقطع بحزم مع ثقافة التبرير، وتغلق أبواب المجاملة، وتفتح أبواب المحاسبة على مصراعيها، لأنها لا تترك مساحة للمواربة، بل تحدد خطًا فاصلاً بين من يخدم الدولة ومن يختبئ وراءها.
السياسة ليست فنّ إطفاء الحرائق فقط، بل هي أيضًا فنّ إشعال الأمل وسط الرماد، وصناعة المعنى في زمن التشتت. الوزير الذي لا يحمل فكرة الإصلاح كقناعة، ولا ينهض إلى موقعه بروح المقاتل لا يستحق أن يكون جزءًا من مشروع الدولة الحديثة. فالكراسي ليست غاية، بل أداة مؤقتة لتمرير الأثر وتحقيق التغيير.
في فلسفة هذا التعديل نقرأ إشارات متعمدة نحو إعادة الاعتبار لمعيار الجدارة، وتجديد الثقة ببعض الطاقات، لا باعتبارهم أشخاصًا بل باعتبارهم مشاريع إصلاحية. والتغيير هنا لا يعني الإقصاء بقدر ما يعني إنصاف المرحلة، إذ أن المجاملة في موقع القرار خيانة للأمانة، والاحتفاظ بغير المؤهلين ظلمٌ للبلد ولمواطنيه.
لسنا بحاجة اليوم إلى وزراء يتقنون فن الظهور، بل إلى وزراء يتقنون فن الحضور؛ حضور الفكرة، وحضور المبادرة، وحضور الأثر. الوزير اليوم ليس من يجلس خلف مكتب مُنسّق بدقة، بل من يستطيع الوقوف أمام جلالة الملك ليقول: هذا ما أنجزت، لا ما تمنيت.
هذا التعديل لا يهدف لتجميل الصورة، بل لكسر صمت الأداء، واستبدال الخطاب البلاغي بالفعل المتحقق. فكل وزارة لا تنخرط في رؤية التحديث هي عبء على الوطن، وكل مسؤول لا يرى الناس، لا يستحق أن يُرى.
ولعلّ المسألة ليست في عدد من غادروا الحكومة أو من دخلوا إليها، بل في جوهر الرسالة التي تقول إن الدولة جادة، وإن رأس الدولة حين يتحدث عن التغيير لا يفعل ذلك من باب التمنّي، بل من باب القرار.
علينا اليوم أن نُعيد صياغة مفهوم العمل العام، أن نفهم أن المنصب لا يُخلّد أحدًا، وأن القيمة الحقيقية لأي مسؤول ليست في صوته العالي، بل في أثره الصامت. لا يُقاس الوزير بعدد الملفات التي يحملها، بل بعدد الأحلام التي حوّلها إلى منجزات للناس دون ضجيج.
وفي هذا المقام، أقول:
إذا ما ارتقى الوزير بفكره
فما حاجتي لكرسي العجَز
فذاك الذي إن تكلم يوماً
يُسائل شعباً ويكتب حرز
ومن لا يُضيء بعقله دربنا
فليس له في الظلام مفرز
هذا الوطن ليس مختبرًا للتجريب ولا ساحة للمراوحة، بل مشروع نهضة عابر للظروف، لا يقبل أنصاف الولاء ولا أنصاف العزيمة. والتعديل لم يكن فقط قرارًا، بل كان مرآةً نحملها أمامنا لنسأل أنفسنا: هل نعيش فعلاً كما يليق بوطنٍ يستحق الأفضل؟ أم أننا ما زلنا نُمسك بالظل وننسى الشمس؟
ما أكتبه هنا ليس انطباعًا عاطفيًا، بل قراءة سياسية حرة، أقولها بضمير من يكتب للتاريخ لا للمجاملة، من يؤمن أن الولاء ليس صدى، بل موقف.