ماذا بعد التعديل الوزاري وما هي أبرز التحديات والتوقعات ؟

مهدي مبارك عبد الله
تشهد الحياة السياسية الأردنية منذ عقود تكرارًا لظاهرة التعديل الوزاري التي غالبًا ما تقدم بوصفها استجابة لتحديات المرحلة أو مدخلًا لإصلاح قادم او سبيل لإدخال دماء جديدة لكن هذه التعديلات على تكرارها تثير تساؤلات عميقة حول طبيعتها وظروفها ونتائجها فضلًا عن احتمالات وتوقعات ما بعدها وهل ستحدث فرقًا فعليًا في إدارة الملفات الحيوية أم ستكون مجرد خطوة إضافية في مسار تدوير الوجوه واستيلاد النَهج دون تغيير حقيقي في بنية القرار أو آلياته وكأنك يا أبو زيد ما غزيت
في كل مرة يعلن فيها عن تعديل وزاري في الاردن تتجدد الأسئلة القديمة ذاتها هل نحن أمام مسار إصلاحي جاد أم مجرد إعادة إنتاج للنهج القائم بأجراء عمليات تجميل محدودة لبعض الوجوه وخلط الاوراق بين التصفيق الرسمي والتوجس الشعبي ليبقى السؤال الأهم معلقًا في الأفق ماذا بعد التعديل هذا السؤال لا يتعلق فقط بتغيير الأشخاص بل يتصل مباشرة ببنية القرار السياسي وآلية صناعة الحكومات وموقع المواطن من كل هذه المعادلات وعليه فإن قراءة ما بعد التعديل الوزاري الأخير تتطلب تفكيكًا دقيقا ومركبًا لعدة محاور تتعلق بالظروف المحيطة مسارات التكرار ومؤشرات الواقع واحتمالات المستقبل
الملاحظ للجميع ان التعديل الأخير مرر في لحظة معقدة داخليًا وخارجيًا فالوضع الاقتصادي لا يزال يعاني من تبعات أزمة البطالة وتراجع النمو واتساع فجوة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة وفي الوقت ذاته هناك حالة تراكمية من التململ الاجتماعي غير المنظم مع التزايد الواضح في حدة الخطاب وعمق الإحباط كما أن الإقليم بصورة عامة يعيش تحولات متسارعة من تصاعد النزاعات الإقليمية إلى الضغوط الاقتصادية الناتجة عن تراجع الدعم الدولي وهذه العوامل مجتمعة تفرض على الدولة مراجعة أدواتها التقليدية لا التمسك بها وفق شكلها القديم ولهذا فإن التعديل الاخير رغم أهميته الرمزية الا انه بدا للكثيرين غير كافٍ لمواجهة حجم التحديات ( ترميم السقف لا يكفي حين تنهار الجدران )
في ضوء الواقع العملي نجد ان التعديل الوزاري الأخير لم يخرج كثيرًا عن القالب التقليدي في ظل تفاقم التحديات الاقتصادية المتراكمة والاحتقانات الاجتماعية المتواصلة والانتقادات الحادة المستمرة للأداء الحكومي خاصة في ملفات التشغيل وارتفاع تكاليف المعيشة وضعف الخدمات العامة كما رافق التعديل كعادته خطاب رسمي يشير إلى نية تجديد الدماء وتحسين الأداء دون تقديم مبررات كافية لسبب خروج وزراء بعينهم أو معايير واضحة لاختيار الجدد والسياق الأوسع يشي بأن التعديل جاء أيضًا لامتصاص الضغط الشعبي وتقديم إشارة إصلاحية للداخل والخارج خاصة مع اقتراب استحقاقات سياسية مهمة كمرحلة ضرورية لما بعد التعديل بالتمهيد لتحول سياسي أوسع قد يرتبط باستحقاقات قادمة كقانون الانتخاب أو إعادة تشكيل الحياة الحزبية والمشاركة العامة والاستعدادات لأجراء انتخابات نيابية مقبلة
المتابع للمشهد السياسي الأردني واستنادا لما سبق يمكنه أن يتوقع ثلاثة سيناريوهات أساسية لمستقبل مرحلة ما بعد التعديل الوزاري الأول يرجح الاستمرار بذات النهج مع بقاء السياسات العامة على حالها دون مساس بجوهر الأزمات وبقاء سيطرة العقلية الإدارية التي تفتقر إلى الرؤية التراكمية وتفضل إدارة الأزمات على مواجهتها مع القيام بتغييرات دورية شكلية لا تمس الجوهر ما يعني مزيدًا من التآكل في الثقة الشعبية وارتفاع وتيرة السخط غير المنظم سياسيًا في الشارع العام
السيناريو الثاني يتوقع دفع الحكومة بحزمة إصلاحات متأخرة في ظل تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية خاصة في بعض الملفات الاقتصادية والإدارية كضبط الإنفاق العام وتعزيز الحوكمة أو تسريع التحول الرقمي في الخدمات غير أن نجاح هذه الإصلاحات سيبقى مرهونً بتوفر الإرادة السياسية وتفويض الصلاحيات الحقيقية للفريق الوزاري لتنفيذها فضلا عن استعداد الحكومة الطارئ لأجراء تعديل وزاري قادم مبكر في حال فشل الفريق الجديد في ضبط الإيقاع أو إذا واجهت الحكومة أزمة سياسية أو اجتماعية مفاجئة
اما السيناريو الثالث فيحصر الامر بإمكانية اجراء تغيرات في قواعد اللعبة السياسية وربط التعديل بخط سياسي جديد يمهد لبناء مشهد سياسي مختلف يتضمن توسيع قاعدة المشاركة أو انفتاحً اوسع على قوى سياسية ومجتمعية كانت مهمشة في السابق لكن مثل هذا التوجه يتطلب تغييرًا في قواعد التعيين والتمثيل وتوفر إرادة صادقة لتعزيز الحياة الحزبية والمؤسسية واستثمار التعديل كبداية إصلاحية وهذا يتطلب توجيهات سياسية عليا لتكريس التقييم وفي هذه الحالة قد يصبح التعديل مجرد تغيير شكلي في الفريق الوزاري لا يؤثر في السياسات الكبرى ولا يعيد الثقة الشعبية بالحكومة لكن هذه السيناريوهات تبقى رهينة لإرادة سياسية جادة ترغب حقيقة في تجاوز المرحلة لا مجرد تبديل للمواقع وتتغير للوجوه لكن المشكلة ليست في الأسماء بل في المسارات
بخصوص التحديات التي من المتوقع ان تعترض مسار التعديل فقد تمثلت في استمرار ضعف الولاية العامة للحكومات المتعاقبة التي لا تزال تعاني من تداخل الصلاحيات وتعددية مراكز القرار وهو ما يضعف فاعلية أي تعديل وزاري مهما حسنت نوايا أعضائه وبدون مراجعة هذا الواقع وتحسينه ستظل الحكومات عاجزة عن تحقيق الإنجازات المطلوبة بالإضافة الى تاثير غياب التقييم والمحاسبة حيث نادرًا ما يسئل وزير عن أدائه أو تنشر تقارير تقييم موضوعية لمراحل عمله وما بعد التعديل يجب أن يشمل العمل على مأسسة ثقافة التقييم والمساءلة حتى لا يتحول التعديل إلى تمرير للوقت على حساب الصالح العام
في ذات السياق تبين مؤشرات قياس الثقة الشعبية بشكل متصاعد وجود فجوة متزايدة بين المواطن والحكومة والتعديل وحده لا يكفي لترميم هذه الفجوة إن لم يرافقه خطاب سياسي جديد يستند إلى الصدق والشفافية والعمل لا الى الشعارات البراقة والخطابات الاعلامية الرنانة وسياسات التعمية والتمويه
بعد التعديل الوزاري إذا ما بقيت عقلية إدارة الدولة كما هي فإن التعديلات ستظل بلا معنى فعلي سوى أنها واجهة إصلاح تدار بها صورة النظام أمام الداخل والخارج أما إذا استثمرت هذه التعديلات كجزء من تحول سياسي أوسع يشمل مراجعة السياسات لا فقط تغيير الشخوص فقد تكون فعلا بداية لتصحيح المسار لكن هذا يتطلب ما هو أكثر من تغيير الوجوه بالانتقال الى تغيير في جذري في فلسفة الحكم و أسلوب تعاطي الدولة مع المواطنين وقبل ذلك في احترام إرادة الناس وحقهم في المشاركة الحقيقية وصناعة القرار ورغم التغييرات الواسعة في بعض الحقائب الوزارية لم يحمل التعديل الوزاري الأخير مفاجآت كبرى ظل المشهد وضمن السياق التقليدي لا زالت تغييرات جزئية مع بقاء شخصيات أساسية ودون إعلان برنامج واضح للفريق الجديد
التعديل الوزاري الأخير لم يكن استثناءً بل جاء هذه المرة وسط أزمات مركبة وضغوط اقتصادية غير مسبوقة مع تنامي معدلات البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة واستمرار حالة واضحة من التراجع في الثقة الشعبية بالمؤسسات العامة في لحظة سياسية واقتصادية حساسة وسط مشهد متخم بالتحديات وبالقراءة المتأنية لمسار التعديلات الوزارية في العقدين الأخيرين يظهر لنا نمطً واضح في تكرار تغييرات في الوجوه مع ثبات في النهج فالوزراء يختارون غالبًا من دوائر بيروقراطية أو تكنوقراطية ضيقة ولا يظهر في التعديلات أي مؤشرات على تحول نوعي في الفكر أو الرؤية أو آلية الإدارة وهذا النمط يرسخ الاعتقاد أن التعديل ليس إلا وسيلة لتدوير المراكز أو لتمرير لحظة سياسية معينة لا كجزء من مشروع وطني متكامل لتجديد الدولة وتعزيز المشاركة وصنع السياسات على أسس ديمقراطية تشاركية
بعد التعديل الوزاري تعود الحياة السياسية إلى نمطها المعتاد بتقديم الحكومة تصريحات متفائلة وزراء يتعهدون بتحقيق نقلة نوعية وخطاب إعلامي يروج لمرحلة جديدة والاستمرار والرغبة في مغادرة المنطقة الرمادية لكن في العمق تبقى الملفات الكبرى الموجعة دون اي حلول ملموسة من حيث الفقر والبطالة والتعليم إلى الإصلاح السياسي واللامركزية كما أن ضعف أدوات الرقابة والمحاسبة وغياب التقييم المؤسسي الحقيقي يجعل من التعديل مجرد بداية جديدة في سجل مفرغ من الإنجاز وبالتالي لا يلمس المواطن تحسن في الخدمات ولا يشعر بأن هناك مسار يعكس تطلعاته أو يسمع صوته او صراخه
الجمهور الأردني بعمومه لم يعد يتفاعل مع التعديلات الوزارية كما كان قبل سنوات ماضية وكثرة التكرار أفرغ الحدث من محتواه خصوصًا في ظل غياب نتائج ملموسة لجميع الوعود المصاحبة وبدون تغيير شامل في المنهجية السياسية والإدارية لن تعود الثقة لمجرد التغيير في التشكيل وليس المهم كم عدد التعديلات التي جرت بل ماذا حققت والشارع أصبح لديه نوع من المناعة المزمنة تجاه وعود الإصلاح المتكررة لأي تعديل وزاري قادم ولم يعد يكتفي بتغيير الأسماء بل ينتظر تغييرًا في الأداء والسياسات والنهج وكل تأخير في اتخاذ خطوات إصلاحية فعلية يزيد من تآكل الثقة ويحول أي تعديل وزاري إلى محاولة لتجميل الواقع لا تغييره
خاتمة : في اعتقادي التحليلي إن القادم لن يكون مختلفًا إلا إذا ترافق التغيير في الأشخاص مع إعادة تعريف للسلطة التنفيذية ودورها اضافة الى تعزيز للولاية العامة وبناء علاقة صادقة وشفافة مع الشارع بحيث يكون ما بعد التعديل مقدمة حقيقية لتحول سياسي وإداري يعلي من شأن الكفاءة والمحاسبة ويعيد الاعتبار للولاية العامة والثقة الشعبية ولا يبقى حلقة أخرى في سلسلة التعديلات الطويلة من إعادة إنتاج الفشل باسم الإصلاح والتي ( تبدل الوجوه ولا تغير النهج ) وفي النهاية ليس المهم من جاء ومن غادر بل المهم إلى أين نحن ذاهبون وهل يكون التعديل الاول على حكومة الدكتور جعفر حسان مقدمة لتحول حقيقي في النهج والسياسات ويبقى ان نقول ان الحكومة اليوم أمام اختبار حقيقي لا يحتمل المزيد من التردد أو التجميل فإما تحول فعلي يعيد الاعتبار للثقة والمساءلة والولاية العامة أو تكرار للإخفاق بأدوات جديدة وشعارات مستهلكة وكل تعديل وزاري وأنتم بخير
باحث وكاتب مختص في الشؤون السياسية