واقع الارشاد الزواجي في فلسطين بين ماضي الجدات وحاضر الفتيات
قراءة تحليلية في التحوّلات المجتمعية وتحديات التوجيه الأسري بين حكمة الماضي وتعقيدات الحاضر: لماذا نكتب عن الزواج اليوم؟

يمثّل الزواج ركيزةً أساسيةً لبناء الأسرة واستقرار النسيج الاجتماعي، وفي مجتمعنا الفلسطيني يعتبر استمراً لمسيرة النضال والصمود في ظل الاحتلال، إلا أن هذه المؤسسة تشهد في العقود الأخيرة تغيرات جذرية في أنماطها وديناميتها، انعكست بشكل مباشر على معدلات الطلاق وتزايد الخلافات الأسرية، وفي الوقت الذي كانت فيه الجدات في الماضي يُقبلن على الزواج وهن يحملن مفاهيم راسخة عن الصبر، والرضا، والدور التقليدي للمرأة داخل الأسرة، نجد الفتيات اليوم يواجهن منظومة مختلفة تمامًا تتسم بتشابك الأدوار، وتعقيد التوقعات، وتحديات الاستقلال الشخصي.
وفي ظل هذه التحولات، أصبح الإرشاد الزواجي ضرورة ملحة وليس خيارًا ترفيهياً، نظرًا لدوره الوقائي والعلاجي في التعامل مع المشكلات الأسرية قبل تفاقمها، ومع ذلك، فإن واقع الإرشاد الزواجي في فلسطين ما يزال يعاني من فجوات واضحة على مستوى التفعيل المؤسسي، والوعي المجتمعي، والتأهيل المهني للمرشدين، لذلك كانت هذه المقالة بمثابة جرس انذار لمحاولة النهوض قدماً نحو مجتمع واعي ينهض بركيزته الأساسية نحو التقدم والتطور وتسليط الضوء على أبرز تحديات الأسرة الفلسطينية في عصرنا الحاضر ومقارنتها بما كانت عليه سابقاً في عصر الجدات والأجداد.
على فنجان قهوة مع الجدة: حوار بين الماضي والحاضر
ذات يوم أثار فضولي البحثي كطالبة دكتوراة في مجال الارشاد النفسي والتربوي التوجه لجدتي التسعينية، لأسألها عن واقع حياتها الزواجية التي عاشتها وكيف استمرت علاقتها بجدي رحمه الله على مدار أكثر من ستين عاما فكان بيننا الحوار التالي:
أنا: ستي احكيلي كيف تعرفت على سيدي واسمريتوا مع بعض كل هالعمر؟ كيف عشت معه وأنت زوجة ثالثة؟ وكيف خلفتي وربيتي تسعة هل كان يساعدك فيهم، حابة أسمعك لنستفيد من خبرتك.
الجدة: ضحكت ضحكة كبيرة وحكتلي أشوف مين وأتعرف عليه، يا بنتي أحنا كنا نشوف بعض يوم العرس بس، وكل واحد ونصيبه، بيوم من الأيام أجى أبوي علي وقلي وأنا بنت عشرين سنة، أجاك عريس وبعد شهر العرس، ومن وقتها ما عرفت غير امه الي اجت علينا مرتين، طلعت من دار ابوي بفرشتين وحاف وجاعد صوف، أبوي قلي قبل أطلع ما بدي اشوف وجهك عندي الا بحالتين يا زيارة لامك أو ميتة وعلى قبرك.
ومن هان بلشت الحياة عشنا مع بعض عالحلوة والمرّة، ربيت ولدين كانوا عنده من زوجته الثانية الي كانت متوفية، كنت أنزل معه نحصد ونزرع في الأرض أيدي بأيده سوا، بعدها أروح أجهز الأكل وأمور الأولاد وهو يروح يبيع الرزق بالسوق.
أبوك كان بكري، حملته على ايدي ثاني يوم ولادته لنشتغل بالأرض، ربيته هو وأعمامك على تحمل المسؤولية ويكونوا رجال، وهو الله يرضى عليه من عمره ست سنين يطلع يبيع بالسوق مع أبوه، عشنا سوا بمغارة وبعدها ربنا أكرمنا بنينا دار من طوب، وبعد سنين من التعب والصبر كبروا الأولاد واشتغلوا بنينا بيتنا الي بتعرفيه وربيتي فيه.
أنا: سألتها وعندي شغف أكبر أسمع حكايتها، ستي طيب لما كان يصير بينكم مشاكل كيف كنتوا تحلوها؟ وشو رأيك ببنات اليوم وليش بضل مشاكل بينهن وبين أزواجهن؟
الجدة: ردت علي بعد تنهيدة كبيرة: يا ستي الله يرضى عليكن جيلكن ربيتن على التلفزيونات والتلفونات، بكبسة زر تشوفن أشياء بعمرنا لا شفناها ولا سمعنا فيها.
أحنا على وقتنا شو ما كان يصير بين المرأة وزوجها كان يضل جوا حيطان الدار، ومع نفسنا ما نحكي فيه، أما هذا الزمن بلشتوا تحكوا المرأة صارت زي الزلمة، بدها تشتغل وتصرف وتكون هي صاحبة القرار، وبعضهم صاروا يشوفوا وجود الرجل بحياتهم كماليات، وهذا عمره ما صار على وقتنا، أحنا يا ستي كلمة الزلمة ما كانت تصير ثنتين، وكل واحد عارف شو حقوقه وواجباته.
باختصار يا ستي من يوم ما دخلن التلفونات للحياة زادت المقارنات، والشيطان دخل معهن للبيوت، راح الرضى، وبطلت القناعة موجودة، وصارت البنت تتشرط حتى قديش بدها تخلف وتدخل بالمكتوب من ربنا.
أنا: ستي لو وحدة من حفيداتك اليوم صار بينها وبين جوزها مشكلة لأنه تأخر بالرد على رسائلها على التلفون، وصارت تشك فيه، شو كنتِ تنصحيها تعمل؟
الجدة: (تبتسم بهدوء) يا بنتي، إحنا زمان ما كان في تلفونات ولا رسائل، وكنا ننتظر أيام وأحيانًا أسابيع نسمع خبر من أزواجنا إذا كانوا مسافرين أو مشغولين، الحياة ما بتوقف على كلمة أو رد. كنت أقولها: روحي اقعدي معه واحكي من قلبك، افهمي هو ليش مشغول أو زعلان، وحطي حسن الظن قبل كل شيء، لو كل مشكلة صغيرة عملناها كبيرة، ما بضل بيت عامر.
أنا: يعني الصبر والحوار أهم من رد سريع على التلفون أو كلمة حلوة أطيب الخاطر؟
الجدة: أكيد يا بنتي، الصبر مثل الملح للأكل، إذا راح أو زاد فسدت الطبخة، ومفتاح البيت السعيد هو الكلام الهادئ والنية الطيبة.
خرجت من عند ستي وأنا أفكر بكل كلمة قالتها، وأسأل نفسي: هل لو عشنا بنفس القيم والصبر اللي عاشتهن الجدات، كانت حياتنا اليوم رايحة تكون أهدأ وأكثر استقرارًا؟
بين الرقم والسبب: قراءة علمية لواقع الأسرة الفلسطينية
إذا كان الماضي قد شهد هذا النمط من العلاقات الأسرية، فإن الواقع الحالي يكشف من خلال الأرقام صورة مختلفة تمامًا، فحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني كان هنالك واقع مرعب ومخيف حول نسب الطلاق في مجتمعنا الفلسطيني حديثا، حيث بلغ عدد حالات الطلاق المسجّلة في فلسطين خلال عام 2022 نحو 9,564) حالة)، توزّعت على ثلاثة أنواع رئيسية: قبل الدخول (3,850) حالة، بائن بعد الدخول (4,427 حالة)، ورجعي (1,287 حالة).
وقد توزعت جغرافياً كالتالي:
الضفة الغربية 5,302)) حالة، (2,181) قبل الدخول، (2,492) بائن بعد الدخول، (629) رجعي.
قطاع غزة (4,262) حالة، (1,669) قبل الدخول، (1,935) بائن بعد الدخول، (658) رجعي.
وللوقوف على أسباب هذه النسب والأرقام المقلقة قامت الباحثة بالرجوع لبعض الدراسات التي أجريت حول هذا الشأن، وقد أظهرت دراسة غادة السنوار (2024) بعنوان “التجارب المتطورة والتأثيرات الناتجة عن الطلاق لدى النساء في فلسطين”، إلى أن الأسباب متعددة ومعقدة، ولا تقتصر على اختلاف الأجيال أو التكنولوجيا، بل تتداخل فيها عوامل اجتماعية وثقافية، ومن أبرزها:
العنف الجسدي أثناء الزواج: أحد أكثر الأسباب شيوعًا بين النساء، ويعكس ارتفاع حالات الطلاق بعد الدخول.
التدخل المفرط من العائلة الممتدة: يحد من استقلالية الزوجين ويزيد من التوترات ويؤثر على استقرار الأسر.
الخيانة الزوجية وعدم التوافق الشخصي: خاصة بين الأزواج ذوي التعليم العالي والمكانة المهنية العالية، حيث لا تتحقق توقعات المساواة والشراكة، ما يؤدي إلى الانفصال.
الموقع الاجتماعي للمرأة (التعليم، المهنة، المستوى الاقتصادي): يؤثر بشكل مباشر على طبيعة أسباب الطلاق وطريقة التعامل معها.
الإرشاد الزواجي: من ترف اجتماعي إلى ضرورة مجتمعية
من خلال هذه المقالة التحليلية التي حاولت الباحثة فيها عمل مقارنة واقعية بين واقع الارشاد الزواجي قديما وحديثا توصي الباحثة بكل مما يلي:
أن يكون هنالك تسليط ضوء أكبر لموضوع الارشاد الزواجي، وزيادة الوعي حول أسباب تفاقم المشكلات وازدياد أعداد الطلاق في الاسر الفلسطينية.
ضرورة إدماج برامج إلزامية للإرشاد ما قبل الزواج عبر المحاكم الشرعية والمؤسسات المجتمعية.
تدريب المرشدين النفسيين والاجتماعيين على أحدث أساليب التوجيه والحوار البنّاء.
إطلاق حملات توعية إعلامية ومجتمعية تهدف إلى تعزيز ثقافة الوقاية من المشكلات الأسرية.
توفير دعم مؤسسي وتمويل مستدام للمراكز والجمعيات المتخصصة في الإرشاد الأسري.
تشجيع البحث العلمي والدراسات الميدانية لرصد أسباب الطلاق وتحليل أنماط التوافق الزواجي.
سؤال ختامي مفتوح للقارئ من الباحثة:
بعد استعراض واقع الإرشاد الزواجي في فلسطين بين ماضي الجدات وحاضر الفتيات، يظل السؤال الأهم: كيف يمكننا الاستفادة من حِكَم الجدات دون أن نتجاهل تحديات الحاضر؟ وهل يستطيع الإرشاد الزواجي أن يكون جسرًا بين القيم الأصيلة ومتطلبات العصر؟ الإجابة ليست في الماضي وحده، ولا في الحاضر وحده، بل في بناء جسر متين بينهما.
المرشدة النفسية والتربوية منال شقيرات
باحثة في دكتوراة الارشاد النفسي والتربوي