ما الذي قد يجبر نتنياهو على وقف حربه في غزة

د . مهدي مبارك عبد الله
منذ أن أشعل نتنياهو نار حربه الاجرامية على قطاع غزة وهو يظن أن آلة الموت التي اطلقها بلا هوادة ستكسر إرادة شعبٍ اعتاد أن يولد من تحت الركام ويقاوم من بين الحصار والجراح وان رهان الدماء سرعان ما يتعرى أمام حقائق الميدان وضغوط الداخل وانكسارات الجيش وارتباك الحلفاء في الداخل و الخارج لتصبح الأسئلة أكبر من شعارات القوة والعنجهية ما الذي قد يوقف عجلة الدم هذه ومن يملك العصا التي ترغم نتنياهو على كبح جموحه وإطفاء محرقة الحرب
نتنياهو لم يعد يقود حرب على غزة بقدر ما يقود حرباً على نفسه وعلى مستقبله السياسي الملطخ بالدماء فالرجل الغارق في أزماته القضائية وحكومته الممزقة يتكئ على آلة قتل عمياء ليؤجل سقوطه خاصة بعدما اكتشف أن غزة عصيّة على الكسر وأن صواريخها وأشباح أنفاقها تقرع أبواب تل أبيب كما تقرع أجراس نهايته هنا يصبح السؤال ثانية ملحاً لا ترفاً ما الذي قد يجبر نتنياهو على وقف حربه قبل أن تتحول إلى مقصلة فوق عنقه
الجميع في اسرائيل وخارجها يدرك جيدا ان نتنياهو لا يقاتل من أجل بقاء إسرائيل كما يزعم بل يقتل ويقاتل من أجل بقاء نفسه وهو الهارب من محاكم الفساد والرشوة والاحتيال حيث يعلم أن أي توقف للعدوان بلا صورة نصر سيعني سقوطه في الشارع واذلاله في قاعات المحاكم وكلما طالت الحرب زاد اقتناعه أن مع نهايتها ستكون نهايته ولذلك يصر على إطالة أمدها حتى لو تحولت إلى حرب استنزاف لا نهاية لها
غزة الصامدة تعيش وشعبها اليوم تحت آلة حرب إسرائيلية متوحشة لم تتوقف منذ سنوات فيما يصر نتنياهو على قيادة الدبابة على نفس السرعة المتهورة متجاهلاً الأصوات الداخلية والخارجية التي تدعوه إلى وقف نزيف الدم والذهاب نحو التفاوض ولا زال يقدم الحرب باعتبارها معركة وجودية لكنه في الحقيقة يخوض معركة شخصية ضد السقوط السياسي وضد محاكم الفساد التي تلاحقه وتنتظر أي لحظة ضعف لإنهاء مستقبله ومنذ تشكيل حكومته الحالية حاول الهروب منها عبر إشعال معارك داخلية وخارجية ابتداء بمحاولته فرض التعديلات القضائية المثيرة للجدل وصولاً إلى الحرب الحالية على غزة وهو يدرك أن أي توقف مفاجئ سيكشف عجزه ويعيد فتح الملفات ضده وبالتالي لا خيار أمامه إلا استمرار النزيف والابادة الجماعية والتدمير الممنهج
المجتمع الإسرائيلي يمر بمرحلة غليان بطيء والاحتجاجات شبه اليومية في تل أبيب وفي مدن أخرى تكبر يوماً بعد يوم وتركز على قضية الأسرى وعلى اتهام نتنياهو بالكذب على الجمهور والتهرب من المسؤولية والوضع الاقتصادي يتدهور مع توقف قطاعات كاملة وتراجع الاستثمارات الأجنبية مما يزيد من غضب الداخل الإسرائيلي الذي قد ينفجر في أي لحظة ويعيد مشاهد الاحتجاجات الحاشدة التي اجتاحت الشوارع ضد خطط التعديلات القضائية العام الماضي والانقسام الداخلي في إسرائيل لم يعد خافياً فمعسكر اليمين المتطرف بقيادة بن غفير وسموتريتش يرى أن هذه الحرب فرصة نادرة لتحقيق مشروع الاحتلال الكامل لغزة وحتى الحديث عن التهجير الجماعي للفلسطينيين الذي أصبح مطروحاً على الطاولة بينما المعارضة بقيادة يائير لبيد ومعها أصوات من الوسط واليسار تؤكد أن هذه الحرب تشكل انتحار سياسي واستراتيجي يجر إسرائيل إلى عزلة خانقة وأن استمرارها يمثل مقامرة كبرى ستقود إسرائيل إلى عزلة خانقة وانهيار استراتيجي في المقابل عائلات الأسرى تضغط بقوة مطالبةً بصفقة لكن نتنياهو يرفض الاستماع لهذه الاصوات ويستند إلى تحالفاته الهشة التي لن تبقى متماسكة إلا إذا ظل في حالة حرب دائمة لأنه يعلم أن أي توقف سيؤدي إلى انهيار الائتلاف وإسقاط حكومته
المؤسسة العسكرية نفسها لم تعد مطمئنة إلى جدوى العمليات الميدانية فالخسائر الكبيرة في صفوف الجنود خاصة في حي الزيتون كشفت أن شعار الحسم مجرد وهم لا يمكن تحقيقه والجيش يدرك أن المقاومة ما زالت تمتلك القدرة على إلحاق خسائر وأن طول أمد الحرب يحول الميدان إلى مستنقع استنزاف لكن القرار النهائي ليس عسكرياً بل سياسياً حيث يصر نتنياهو على تهميش أصوات رئيس الأركان والقيادة العسكرية التي أوصت بهدنة مؤقتة وفتح مسار سياسي لتجنب الاستنزاف القاتل لكن نتنياهو يصر على فرض أجندته السياسية ضارباً بعرض الحائط جميع تحذيرات الخبراء العسكريين الذين يرون أن المشهد يكرر تجربة لبنان عام 2006 حين غرق الجيش في معركة بلا نتائج واضحة وتكبد خسائر فادحة
الولايات المتحدة تبقى اللاعب الأكثر تأثيراً فمنذ البداية وفرت الغطاء السياسي والعسكري لهذه الحرب كما تباهى ترامب وطاقمه بأن أمن إسرائيل فوق كل اعتبار واندفعوا لتبرير كل جريمة في غزة بل واعتبروا ان إعادة احتلالها خياراً مشروعاً لكن في المقابل واشنطن تخشى من انفجار إقليميً شامل يمتد إلى لبنان وسوريا واليمن وإيران ولهذا منحت نتنياهو أكثر من فرصة لإنهاء مهمته لكنه فشل في تحقيق الأهداف المعلنة الأمر الذي يطرح سؤالاً محورياً حول ما إذا كانت إدارة ترامب ستظل تمنحه الضوء الأخضر أم أنها ستفرض قيوداً صارمة تجبره على التوجه نحو صفقة تبادل أسرى أو وقف إطلاق نار مؤقت خصوصاً بعد تفاقم ضغط الرأي العام الغربي وتصاعد صور الدمار والمجازر والمجاعة في غزة
الانحياز الامريكي الفجّ سرعان ما أدخل واشنطن في حرج متزايد مع تنامي موجة الغضب الشعبي والانتقادات الحقوقية والدبلوماسية في العالم وامام كل هذا بدأت الإدارة تفكر بأن يتحول الدعم الأعمى لإسرائيل إلى عبء سياسي يلاحقها وفي الكواليس تسربت أحاديث عن ضغوط أمريكية غير معلنة تطالب نتنياهو بتحقيق إنجاز سريع أو القبول بصفقة توقف الحرب وهو ما يضعه أمام مشكلة قاسية حيث يدرك أن فقدان الغطاء الأمريكي يعني خسارته لكل شيء
نتنياهو الان يعيش فترة ولايته الثالثة وهو الأضعف سياسياً منذ دخوله الحياة العامة وهو يراهن على حليفه ترامب ولا زال يستذكر دعمه غير المحدود حين نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وشرعن الاستيطان في الضفة لذلك يحاول كسب الوقت والاستمرار في الحرب ليشكل شبكة أمان جديدة تحميه من الضغوط الدولية وتمنحه فرصة للانقلاب على أي التزام قد تفرضه عليه الادارة الامريكية
رغم تململه الواضح الا المجتمع الإسرائيلي لم يصل بعد إلى مرحلة العصيان المدني أو الضغط الشعبي الكاسح فالتظاهرات لا تزال محدودة تركز على قضية الأسرى أو ملفات الفساد لكن طول أمد الحرب وتزايد الخسائر الاقتصادية والبشرية قد يحول هذا الغضب الكامن إلى قوة قادرة على كسر إرادة نتنياهو وهذا احتمال لا يمكن استبعاده في ظل تراكم الأزمات
دولياً تتصاعد عزلة إسرائيل على نحو غير مسبوق حيث حركت صور المجازر في غزة الرأي العام العالمي وأحرجت الحكومات الغربية حتى تلك التي اعتادت الدفاع عن الاحتلال كما بدأت برلمانات أوروبية تناقش علناً تجميد صفقات السلاح أو فرض عقوبات اقتصادية ومع تنامي حملات المقاطعة وقرارات بعض الجامعات والنقابات في الغرب مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية لم يعد نتنياهو قادراً على التباهي بكونه رجل الدولة الذي يحمي صورة إسرائيل بل أصبح رمزاً للعزلة والاتهامات بجرائم حرب متكررة
معضلة نتنياهو الكبرى ليست سياسية فقط بل وجودية فهو يعرف أن بقاءه في الحكم هو الوسيلة الوحيدة للهروب من المحاكمات لذلك هو يراهن على الحرب كطوق نجاة شخصي وكل خطوة هروب إلى الأمام بالنسبة له ليست استراتيجية إسرائيلية بل محاولة شراء وقت إضافي حتى يضمن بأن حلفاءه المتطرفين لن يتخلوا عنه وأن الإدارة الأمريكية لن تسحب الغطاء عنه لكنه يغفل أن التوازنات في المنطقة اصبحت قابلة للانهيار في أي لحظة خاصة إذا ما اجتمعت الضغوط الداخلية والعسكرية والدولية
إذا استمر المشهد على ما هو عليه فهناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية محتملة أولها أن يفرض الجيش مع المعارضة السياسية تهدئة مؤقتة تفتح الباب أمام صفقة تبادل للأسرى وهو السيناريو الأقرب للواقع في ظل ضغط عائلات الجنود المتصاعد واستمرار ثقل الخسائر ثانيها أن تواصل حكومة نتنياهو الحرب بلا أفق حتى انفجار الداخل الإسرائيلي بانهيار اقتصادي واحتجاجات واسعة قد تعصف بالحكومة نفسها أما السيناريو الثالث فهو دخول عامل خارجي ضاغط مثل فرض قيود أمريكية صارمة أو تحرك أممي وأوروبي يربط استمرار الحرب بعقوبات اقتصادية وأمنية وفي كل هذه الحالات يبقى المؤكد أن بقاء نتنياهو على رأس السلطة مرهون باستمرار نزيف الدم الفلسطيني والموت المجاني للأطفال والشيوخ والنساء لأن أي توقف للحرب قد يعني سقوطه السياسي والشخصي معاً
لا زال نتنياهو يتوهم أن بإمكانه أن يواصل حربه حتى آخر بيت في غزة وأن العالم سيمنحه صكاً على بياض لارتكاب المجازر لكنه ينسى أن حسابات الميدان لا تشبه حسابات مكاتب الإعلام ولا أوهام الكنيست فما الذي سيحدث حين يخرج مئات آلاف الإسرائيليين إلى الشوارع يطالبون برحيله قبل أن يطالبوا بالنصر وما الذي سيحدث حين يدرك جيشه المأزوم أنه يقاتل في رمال متحركة لا أفق فيها سوى الخسارة وما الذي سيحدث حين تنقلب ضغوط الحلفاء إلى تهديدات حقيقية بقطع السلاح والمال عندها فقط ستنكسر عنجهيته وسينكشف عجزه وسيدرك أن غزة لم تخلق لتركع وأن الدم الفلسطيني ليس ورقة يساوم بها طويلا على طاولات السياسة وحينها لن يتوقف نتنياهو لأنه أراد بل لأنه أُجبر على الانكسار
اذا وبناء على كل ما سبق ان ما قد يجبر نتنياهو على وقف الحرب ليس القناعة ولا المبادرة الذاتية بل نتيجة تراكم الضغوط من الداخل والخارج وصاعد ضغوط الجيش والمعارضة وواشنطن والمجتمع الدولي وعندما تلتقي هذه العوامل في لحظة مفصلية قد يجد نفسه مضطراً للرضوخ لا من موقع المنتصر بل من موقع العاجز عن مواصلة مغامرة دموية تحولت إلى عبء وجودي يهدد مستقبل إسرائيل قبل أن يهدد مستقبله الشخصي
الخلاصة نتنياهو مرة اخرى لن يوقف الحرب بإرادته ولن يتنازل عن أوهام النصر لكنه قد يجبر على ذلك عندما ينهار التوازن الدقيق الذي يحميه عندها لن يكون وقف النار خياراً بل استسلاماً مقنعاً وهزيمة سياسية مدوية قد تعني نهايته الشخصية قبل أن تعني نهاية حكومته وحين يسقط نتنياهو ستسقط معه أكذوبة إسرائيل التي لا تهزم