سمير حليلة… من حاكم غزة المنتظر إلى معتقل لدى السلطة

مهدي مبارك عبد الله
بينما تتجه كل الأنظار نحو غزة وما تفرزه الحرب الدامية من جراح وأشلاء وخراب يمتد فوق وجدان شعب محاصر منذ أكثر من عقد ونصف ولا تزال غزة تحت القصف تتشكل في الخفاء خرائط ما بعد الحرب يتصدر اسم سمير حليلة المشهد فجأة لا بصفته رجل أعمال مخضرمًا أو مسؤولًا إداريًا سابقًا بل كحاكم مدني مقترح للقطاع في المرحلة القادمة اسمٌ تردد صداه في غرف القرار الغربية وتناقلته وسائل الإعلام العبرية بوصفه الوجه المقبول لدى واشنطن وتل أبيب لقيادة غزة من خارج فصائل المقاومة وتاريخها
المفاجأة لم تكن في الترشيح بحد ذاته بل في رد فعل السلطة الفلسطينية التي لم تتأخر كثيرًا فأرسلت عناصر أمنها لاعتقال الرجل من أحد مطاعم رام الله في مشهد فاجأ الجميع وفتح أبوابًا جديدة لأسئلة لم تكن مطروحة بهذا الشكل من قبل فهل جاء الاعتقال رفضًا للمشروع أم تبرؤًا متأخرًا منه وهل كان حليلة ضحية طموحه أم كبش فداء لخلافات داخلية وخارجية تفجرت قبل الأوان لماذا الآن ولماذا يُعتقل رجل محسوب تاريخيًا على السلطة وهل تغيّر شيء في حسابات الداخل الفلسطيني أم أن القضية أكبر من مجرد تصريحات إعلامية استعراضية وما حقيقة العلاقة بين مشروع ” حاكم غزة ” وحسابات واشنطن ومن هذا الشخص الذي يملك الجرأة لإعلان نفسه زعيمًا مفترضًا لغزة في وقتٍ لم تجف فيه دماء المجازر الإسرائيلية بعد في هذا المقال نفتح ملف سمير حليلة ونقرأ بين سطور تحركاته وتحولات المشهد الفلسطيني الذي بات مكشوفًا على أكثر من سيناريو في وقت تظهر على سطح المشهد شخصية غامضة يتردد اسمها في الكواليس الدبلوماسية وصالات الاجتماعات المغلقة وأروقة الصحف العبرية وهو ليس جديد تمامًا على الحياة العامة الفلسطينية لكنه هذه المرة يطل من زاوية مختلفة مثيرة للجدل والخطر والتساؤلات الكثيرة
سمير حليلة يعود بقوة إلى تصدر العناوين من البوابة الأخطر على الإطلاق كحاكم غزة القادم هكذا وبهذه الصيغة أطلقت عليه بعض الجهات الغربية والإسرائيلية اللقب وبثقة مفرطة تحدث هوعن مستقبله في غزة بعد الحرب وكأن القرار قد حُسم بالفعل وأن القطاع الجريح بات ورقة مطروحة للمساومات على طاولة الغرب لهندسة مستقبله بعد الخراب
الحديث عن حليلة لا يمكن فصله عن التحولات العميقة التي تصاغ في الخفاء بشأن مستقبل غزة بعد الحرب فالإشارات التي التقطها الإعلام العبري وعلى رأسه صحيفة “يديعوت أحرونوت” اشارت بوضوح إلى أن هناك مشاورات تجري منذ أشهر مع أطراف فلسطينية غير فصائلية وبغطاء دولي من أجل التمهيد لحكم إداري مدني للقطاع بعد إزاحة حركة حماس بالقوة وهذا المشروع وفق ما تسرب من معلومات يقوده فريق أمريكي إسرائيلي يسعى لإنتاج نظام بديل في غزة لا يستند إلى نتائج انتخابات ولا توافق وطني بل إلى فرض أمر واقع بذريعة ” إعادة الإعمار والإدارة المؤقتة ” وفي هذا السياق برز اسم حليلة الذي لا ينتمي لأي تيار سياسي مسلح ويمتلك خلفية إدارية واقتصادية عميقة ويرتبط بعلاقات وثيقة مع عدة مؤسسات دولية مانحة
خلال تصريحاته الأخيرة لم يخفِ حليلة حقيقة ما يجري بل تحدث عن طُرح اسمه لتولي المنصب منذ أكثر من عام وأن ترشيحه جاء بموافقة ضمنية من أطراف في القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء بل أضاف أن حماس أعلنت من طرف واحد أنها لا تمانع قيام لجنة إدارية مستقلة بإدارة القطاع بعد الحرب ما يعني أن الأرض كانت تمهد خلف الستار لمشروع حكم مدني جديد بعيدًا عن فصائل المقاومة والتاريخ النضالي لكن المدهش هو أن السلطة نفسها التي قال إنها شريكة في المشاورات عادت ونفت رسميًا أي علاقة لها بالموضوع واعتبرت أن أي تحرك خارج الشرعية الفلسطينية هو خيانة وطنية ومحاولة لفرض الانقسام واقعًا دائمًا
السؤال المثير للشكوك هل تبرأت السلطة الفلسطينية من مشروع هي شريكة في تفاصيله أم أنها فوجئت بحجم الرفض الشعبي لهذا السيناريو أم أن الغضب من واشنطن بعد قرارها منع مسؤولين فلسطينيين من دخول أراضيها لعب دورًا في تغيير التكتيك وحكم بهذه النتيجة الإجابة ليست واضحة تمامًا لكنها تشير إلى ارتباك داخلي كبير في أروقة رام الله وتضارب في السياسات تجاه ملف غزة الذي بات اليوم ملعبًا للتدخلات الخارجية ومسرحًا لمشاريع السيطرة الناعمة تحت عناوين إنسانية وتنموية مشروع سمير حليلة في جوهره ليس مجرد طموح شخصي أو مغامرة فردية بل انعكاس حقيقي لخطة يجري التحضير لها بإشراف أمريكي مباشر لخلق قيادة بديلة في غزة لا تُقلق إسرائيل ولا تملك سلاحًا ولا تتبنى نهج المقاومة بل تُدار كشركات الاستثمار بمنطق التوازنات الدولية وليس الإرادة الشعبية
الاعتقال الذي تم بتعليمات مباشرة من جهاز الأمن الوقائي أعاد النقاش إلى نقطة البداية هل نحن أمام صراع أجنحة داخل السلطة حول من يدير غزة بعد الحرب أم أن هناك رسائل سياسية متبادلة بين رام الله وواشنطن وهل حليلة ضحية لمشروع أكبر منه أم أنه كان بالفعل أداة في مخطط يراد فرضه على الفلسطينيين بالقوة أو بالأموال الملف ما زال مفتوحًا والسيناريوهات متعددة لكن المؤكد أن الشارع الفلسطيني بات أكثر وعيًا بمخاطر مشاريع الوصاية السياسية والتنصيب الفوقي التي تعيد إنتاج الاحتلال بوجوه جديدة
التطورات الاخيرة في هذا الصدد قد لا تكون نهاية الحكاية بل ربما بداية فصول أكثر تشويقًا وغموضًا خاصة إذا ما قررت الولايات المتحدة المضي قدمًا في تنفيذ رؤيتها لما بعد الحرب وهل ستجد بديلًا آخر لحليلة ام سوف تتدخل للأفراج عنه أم أنها ستفشل كما فشلت في مشاريع سابقة اخرى حاولت فيها استبدال القادة الميدانيين برموز بيروقراطية وهل ستبقى غزة رهينة لهذه المشاريع التي لا ترى في أهلها إلا متلقين للمعونات وليس شركاء في تقرير المصير
ما يجري اليوم ليس سوى فصل جديد من فصول الامس لتصفية القضية الفلسطينية ولكن هذه المرة بأدوات ناعمة ووجوه مألوفة ورايات براقة تحمل عناوين “الإعمار” و”الإدارة” و”الحكم المدني”، بينما في جوهرها ليست سوى محاولات لإعادة إنتاج الاحتلال بثياب بيروقراطية ناعمة وبأيدٍ فلسطينية مأجورة أو مغفّلة. غزة التي لم تنحنِ تحت صواريخ الطائرات لن تقبل أن تُحكم بقرارات صادرة عن واشنطن أو تل أبيب ولن تسمح بأن تُدار كمشروع استثماري أو ملف إغاثي
من يعتقد أن الشعب الفلسطيني قد تعب واستسلم واكتفى بلقمة العيش تحت الركام لا يفهم معنى الكرامة ولا يقرأ جيدًا تاريخ هذا الشعب إن الرد الحقيقي على هذه المشاريع لا يكون بالبيانات ولا بالتنديد بل بالتماسك الشعبي، وبالوحدة الوطنية على قاعدة المقاومة لا الخنوع، وبالالتفاف حول مشروع تحرري حقيقي لا يُصاغ في غرف مغلقة ولا يقدَّم كمنحة من البنك الدولي بل يُنتزع كما انتُزعت كل لحظة حرية في هذا التاريخ إن القضية الفلسطينية لا تحتاج إلى موظفين جدد بل إلى مقاومين أشداء إلى إرادة لا تنكسر وإلى وعيٍ شعبي لا تنطلي عليه سيناريوهات الوصاية السياسية لأن فلسطين لا تُدار فلسطين تُحرر
الاحتلال الصهيوني يعيد إنتاج مشروعه القذر في غزة عبر الدفع بسمير حليلة كواجهة عميلة تمامًا كما فعل عام 1973 حين عين رشاد الشوا تحت مسمى الإدارة المدنية وهو المشروع نفسه الذي لم يكن سوى محاولة لشرعنة الاستعمار اليوم لم يعد في الوعي الفلسطيني أي مساحة لقبول هذه الخديعة فكل من يتقدم لحمل هذا الدور إنما يعلن نفسه خائنا صريحا متواطئا مع الاحتلال ومطبعًا مع مشروعه الاستيطاني وساقطا أخلاقيا ووطنيا وسياسيا لا مكان له إلا في خانة العملاء الذين يطاردهم عار الشعب ولعنة التاريخ
وجهة نظر وتحليل تقديري ما يحدث ليس مجرد محاولة لتدوير النخب الاقتصادية أو تقديم وجوه “معتدلة” للحكم في غزة بل هو مشروع سياسي مكتمل الأركان يجري تسويقه دوليًا عبر أدوات محلية وإقليمية تحت عنوان “ما بعد حماس” مشروع يريد قطع رأس المقاومة لا من خلال الدبابات فقط بل من خلال الإدارة المدنية الناعمة وفرض رموز محسوبة على دوائر رأس المال الدولي والسياسات الليبرالية التي لا تؤمن بالتحرير كهدف بل ترى في الشعب الفلسطيني مجرد كتلة بشرية يجب ضبطها وحكمها وإدارتها لا تحريرها
من هو اذا سمير حليلة هذا ولماذا هو تحديدًا الرجل من مواليد أريحا عام 1957 درس الطب في مصر قبل أن يُرحل على خلفية نشاطه الطلابي ضد اتفاقية كامب ديفيد ثم توجه إلى بيرزيت ومن ثم بيروت ليحصل على شهادات في علم الاجتماع والاقتصاد وقد شغل مناصب رفيعة في حكومة أحمد قريع وكان أمينًا عامًا لمجلس الوزراء كما تولى رئاسة مؤسسات اقتصادية ومالية كبرى مثل بورصة فلسطين وباديكو ومعهد ماس ما منحه نفوذًا واسعًا في أوساط رجال الأعمال والدوائر الدبلوماسية الغربية لكنه لم يُعرف طوال مسيرته بأي نشاط وطني أو ميداني أو سياسي حقيقي بل ظل يتحرك في هامش الإدارة التقنية والبيروقراطية الأمر الذي يطرح تساؤلًا عن سر اختياره لهذا الدور المصيري في مرحلة سياسية وأمنية هي الأخطر منذ احتلال غزة عام 1967
ختاما : اذا كانت السلطة الفلسطينية استيقظت متأخرة من سباتها العميق على خطورة هذا المسار فإن عليها أن تقول كلمتها بوضوح لا عبر الترهيب والاعتقالات وتكميم الافواه بل من خلال إعادة صياغة المشروع الوطني القائم على قاعدة المقاومة والشراكة والتعددية لا على سياسات الاستبدال والإقصاء والاستيراد السياسي من غرف القرار الأجنبية فغزة لا يحكمها موظف سابق بل تحكمها الإرادة الوطنية الحرة التي لا تشترى ولا تفرض ولا تدار عن بعد
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]