قرية قد تكون العالم

علي سليمان النجادات
تفاصيل ممعنة في الغياب تُراقص حضوري على أنغام المقطوعة الحالمة لشوبان التي لن تنطفئ حتى تُحيلني إلى رماداً تذروه الرياح في ليل عادة ما ينتهي باليأس المطبق على أوتار الفعل الأخير.
وأنا في طفولة الجسد والروح تشكل لدي إنطباع بأن العالم ينحصر في حدود قريتي التي لا تتعدى مساحتها بضع من الكيلو مترات، هذه القرية التي تقع في أقصى الجنوب وتبعد عن العاصمة عمان حوالي ثلاثمئة كيلومتر.
في قريتي القويرة كل شيء ينتمي إلى كل شيء ويرتبط كل شيء بكل شيء، الجماد بالنبات والنبات بالحيوان والحيوان بالإنسان والإنسان بالسماء والسماء بالأرض، ولهذا جاءت مزيجاً من الطرفين المتقابلين في طبيعتها ومساق الحياة فيها.
تتلفع طرقاتها بالأسرار وتطوف في أرجائها ألحان آسرة تتهادى سيالاً من الحنين العذب تتدفق في القلب مثل شلال من نور، وينسل من فضاءاتها حكايا التاريخ الغافية في تيه الزمن.
كان فكري في تلك الفترة حبيس معالم القرية، أتشبث بطرقاتها الترابية، وأتأمل بيوتها البسيطة، وأتشابك مع تفاصيلها الصغيرة كما تتشابك الروح مع الجسد في سر لا يراه أحد.
كان فضولي الطفولي يقودني إلى إكتشاف كل زاوية فيها، فيما يُقيدني الروتين اليومي بجدولٍ مألوف لا يتغير، حتى غدت القرية عالمي كله وحدود معرفتي الأولى.
من الأشياء التي توقفت عندها في طفولتي، تلك التفاصيل الصغيرة التي شكلت عالمي الأول، ديوان القرية الذي دائماً ما يكون في المساء أشبه بملتقى للأرواح، حيث يجتمع رجال القرية بعد يوم طويل من العمل، يتوزعون في أرجائه على بُسط قديمة، يتكلمون مثلما يتنفسون تشعر بحرارة أنفاسهم جذلى تتهادى في القلب خيالاً شاسعاً يزهر بالأساطير ويزدحم بالرؤى.
وعلى مقربة من الديوان دكان الحارة نافذتي الصغيرة على عالم أوسع، مكان بسيط حيث الرفوف التي تضيق بالسكر والشاي والعدس، إلى جانب أكياس الحلوى التي تلمع في عيون الأطفال.
أما المدرسة فكانت المكان الرحب الذي يتسع للأحلام أكثر مما يتسع للدروس، نذهب إليها كل صباح مشياً على الأقدام وفي النفس أمل يسعى ما يزال في بداياته.
حياة ممتلئة بشهد الروح غنية بالدهشة وسحر البدايات، في مسمعي ترن أنغامها رنيناً لطيفاً يتعالى على وقع أقدامنا الحافية أنا وأبناء جيلي ونحن نطارد بعضنا البعض في ساحات اللعب والمرح، ممزوجاً بصيحات أُمهاتنا التي تُلاحقنا بين حين وآخر تدعونا إلى العودة للبيت.
وهكذا بين معالم قريتي التي ذكرتها والتي لم يسعفني الوقت لذكرها، نَسجت طفولتي خيوطها الأولى لتبقى متشابكة في نسيج الذاكرة، تُذكرني بأن الطفولة والتاريخ يلتقيان عند وميض سماء تزف لي أنخابها بسخاء وتضمد جراحي.
هي ذي المدينة نائمة وكل شيء هادئ وعليّ الآن أن أسند رأسي مهملاً على أعتاب أحلام مؤجلة وأنظر إلى العالم كيف يسيل مثل ساعات سلفادور دالي المذابة تحت سنابك النهار وشفق العمر من غير مبالاه منه أو إكتراث.
علي سليمان النجادات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى