حرق القرآن لا يصنع زعيمة الوجه القبيح للعنصرية السياسية في أمريكا

مهدي مبارك عبد الله

بعدما تحولت ظاهرة حرق القرآن الكريم في الغرب وتحديدًا في بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى ما يشبه الموضة الرخيصة التي يلجأ إليها كل متطرف مغمور أو سياسي فاشل يبحث عن بضع دقائق من الاضواء والشهرة على حساب مشاعر أكثر من مليار ونصف إنسان مسلم حول العالم حيث لم تعد هذه الأفعال الشنيعة حالات فردية معزولة بل باتت منهجً مفضلً عند بعض المتطرفين الحاقدين الذين يستغلون غطاء حرية الراي والتعبير لتمرير أبشع أشكال وصور العنصرية الدينية والكراهية الممزوجة بروح الطائفية البشعة

اعمال حرق القرآن الكريم في أوروبا ليست جديدة وهي تمتد لخمسة قرون تقريباً إلا أن ازديادها منذ ثمانينيات القرن الماضي أصبح ملموساً خاصة بعدما صارت دوافعها السياسية طاغية على الاهداف الدينية التقليدية التي عكست تاريخ العداء الديني بين الإسلام والمسيحية منذ منتصف الألفية الماضي

هذه الممارسات والافعال غير العقلانية بقيت تتكرر دون أي مساءلة أو محاسبة في ظل صمت رسمي ودولي مشبوه مع تبرير إعلامي مقزز في مقابل ذلك يقف كثير من المسلمين حائرين أمام هذا التمادي الوقح في الاستفزاز المتواصل وهم يتساءلون لماذا لا نرد عليهم بالمثل ونحرق كتب الإناجيل والتوراة كما يفعل هؤلاء الجهلة المجرمون والعنصريون المعتدون لكن هذا السؤال رغم وجاهته الظاهرية يحمل في داخله فخًا أخلاقيًا لا يليق بمكانة الإسلام وعظمة رسالته ونزاهة اتباعه

في مشهد كريه من لحظات السياسة الأمريكية الغارقة في العنصرية والمتطرف أطلت علينا في نهاية شهر اغسطس الماضي المدعوة فالنتينا غوميز المرشحة الحمهورية للكونغرس الامريكي عن ولاية تكساس بوجهها القبيح المتجهم ولسانها السليط المحموم عبر مقطع فيديو أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه إعلان حرب لا على الإسلام فحسب بل على الإنسانية بأسرها حيث وقفت ممسكة بالمصحف الشريف وأضرمت فيه النيران بواسطة بندقية لهب امام الكاميرات والحشود وكأنها تشعل نيران حقدها وكراهيتها في وجه مليار ونصف المليار مسلم على سطح هذا الكوكب وهي تردد في نشوتها المريضة عبارات أشبه ما تكون بنداء استغاثة من عقل مهزوم حيث قالت ” سأنهي الإسلام يا رب ساعدني” ثم أتبعتها بنداء انتخابي فج ” ساعدوني للفوز بالكونغرس حتى لا تضطروا لمواجهة حجارة المسلمين ” عبارات تجمع بين الجهل الصارخ والكراهية العمياء والخلط المخيف بين الدين والإرهاب في ذهن سيدة تسعى لتمثيل شعب متعدد الأعراق والأديان في مؤسسته التشريعية الاولى

اللافت في مهزلة فيديو غوميز أنها لم تكتف بالحرق بل ربطت الإسلام بجريمة الاغتصاب والقتل واتهمت المسلمين بمحاولة السيطرة على الدول المسيحية ضمن رؤية سوداوية في خيال مؤامراتي لا يستند إلى أي واقع بل يغذيه الجهل والتطرف سيما انها بعملها المشين لم تهين كتابا مقدسا فحسب بل اهانة سيدنا عيسى عليه السلام نبي الله الذي يحتل مكانة رفيعة في الإسلام حتى ان الاهانة طالت أمه مريم التي لها سورة منفردة باسمها في القرآن الكريم وهو ما يكشف جهلها الفاضح بأبسط ما يتضمنه القران الذي أحرقت صفحاته وحرضت على أصحابه

المثير في خذه المسألة هو الرسالة التي يحملها هذا التصرف القذر للعالم الإسلامي لان حرق القران من قبل مرشحة لعضوية الكونغرس الأمريكي لا يمثل فعلا فرديا عابرا بل هو حدث سياسي له رمزية ومدلولات خطيرة ومغزى أعمق حيث يظهر أن التحريض على المسلمين لم يعد مجرد انحراف شخصي وهامشي بل أصبح رؤية جماعية لدى فئات عديدة متطرفة وأدوات انتخابية في بعض الدوائر السياسية الأمريكية خاصة وأن هذا الخطاب بات يجد صدًى ولو محدودا في مجتمع يفترض أنه يقوم على التعددية والتسامح والعيش الديني والانساني المشترك

للمرة المليار نؤكد ان حرق القرآن لا يصنع زعيمة سياسية او تشريعية هكذا يمكن اختصار التصرف العبثي الذي صنعته غوميز عندما أقدمت على فعل قذر ومستهجن يكشف عن وجه قبيح للعنصرية السياسية في داخل أمريكا مع التأكيد مرارا على ان تصرفها هذا لم يكن فعلًا فرديًا عابرًا بل كان موقفًا مدروسًا بعناية مسبقة بهدف الاستفزاز المتعمد لمشاعر أكثر من مليار ونصف مسلم حول العالم في محاولة واضحة لتوظيف الدين كورقة انتخابية رخيصة على حساب القيم والمبادئ التي تدعي هي الدفاع عنها في برنامجها الانتخابي

المتطرفة غوميز لم تحرق كتابً من ورق فقط بل تعمدت إهانة رمز ديني مقدس تتعلق به مشاعر ملايين الناس وهو ما يجعل فعلها هذا يتجاوز حدود حرية التعبير ليدخل في صلب خطاب الكراهية والتطرف السياسي تحت غطاء الديمقراطية الزائفة التي تتغنى بها امريكا وما قامت به ايضا ليس مجرد تعبيرًا عن رأي بل تحريضًا مقصودًا ومبنيًا على حسابات انتخابية سوقية تهدف إلى كسب دعم التيارات المتطرفة المعادية للإسلام داخل المجتمع الأمريكي المحتقن بالتناقضات والاختلاف

العالم بأسره منقسم اليوم بين من يبرر مثل هذه الافعال تحت شعار حرية التعبير وبين من يرفضها بشكل قاطع ويعتبرها تصرف عنصري بغيض واستفزازي لكن في كل الاحوال المبادئ الشريفة لا تقبل ابدا التحريف او التأويل فحرية التعبير لا تعني بالمطلق الإساءة للآخرين ولا طمس كرامة الأديان والمقدسات تحت ستار المواقف السياسية المشحونة بالكراهية وهذا الافعال تكشف دائما عن خلل عميق في الفهم الغربي لمفهوم الحرية حين يصبح إهانة الآخر أمرًا مقبولًا ومبررًا بل ومروجًا له من قبل امرأة نشاز ربما تطمح في المستقبل لقيادة دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية وكانه لا يكفي العالم جنون وحقارة دونالد ترامب ونفاخة وعباء جو بايدن

الواضح للجميع أن غوميز اختارت طريقًا غير سوي ومختصرًا للاستعراض والظهور وهو سبيل الكراهية والاستفزاز وبث الفتنة والفرقة بدلًا من طرح برنامج انتخابي يحترم العقل ويعالج التحديات الخدمية والمعيشية التي تواجه المواطن الأمريكي حيث فضلت الصراخ العالي على الحوار الهادئ واسلوب الاحتقار على عقلانية التفاهم وكأنها تعتقد بأن الوصول الى الرئاسة يمر عبر بوابة الحقد والتطرف والاساءة الى الإسلام والمسلمين رغم ان التاريخ أثبت أن من يركب موجة الكراهية سرعان ما تغرقه الحقائق ويبتلعه الفشل الابدي أي كانت غايته او مكانته

المسلمون حول العالم عبروا عن غضبهم الشديد تجاه هذا التصرف المشين لكنهم في الوقت نفسه يدركون أن القرآن لا يهان بفعل فرد مريض نفسي ومعوق فالمقدسات لا تجرحها النار بل تكشف هذه الأفعال المتهورة قبح أصحابها وتفضح نواياهم أمام العالم بأسره فالقرآن سيبقى محفوظًا في صدور المؤمنين ورفوف المكتبات وعقول العلماء أما من يحاولون النيل منه فلن ينالوا إلا الازدراء والسقوطً الأخلاقيً المدوي وللتاريخ شهادات عديدة

مرة اخرى نؤكد ان ما قامت به غوميز ليس سوى دليل على إفلاسها السياسي والأخلاقي وعلى استعدادها كمرشحة للوصول إلى السلطة بأي ثمن ولو كان ذلك على حساب التعايش والسلام الاجتماعي وحرق القيم الإنسانية النبيلة فحين تتحول المسألة الدينية إلى ورقة انتخابية تفقد السياسة قيمتها ومعناها وتتحول إلى مسرح عبثي مليء بالصراخ الفاجر والكراهية الممجوجة والتحريض الفوضوي

القرآن الكريم لا يجعل من يحرقه في زعيما او في المقدمة تقدير واحترام بل يكشف عن زيف ادعاءاته ويضعه في مواجهة أخلاق الشعوب والضمير العالمي وهذا ما حصل بالفعل مع غوميز التي اختارت أن تحرق كتابًا مقدسًا لتحصد بعض التصفيق من جمهور مثلها متطرف وجاهل لكن صدمتها كانت في رد الفعل العالمي الإسلامي الذي كان أوسع وأعمق وأقوى مما توقعت لتثبت مجددًا أن احترام الأديان ليس خيارًا بل ضرورة للحفاظ على كرامة الإنسانية وحقوق الإنسان وبنا المجتمعات المسالمة

كتاب الله لا يتأثر بتمزيقه أو إحراقه بل يفضح بسلوك اإهانته نوايا الحاقدين ويظهر خواءهم الأخلاقي وافلاسهم الحضاري الذي يعانون منه أما المسلمون فإنهم بسمو أخلاقهم ونبل دينهم لا يردون بالإساءة على الإساءة لأنهم أتباع رسالة عفيفة علّمتهم أن احترام المقدسات مبدأ لا يساوَم عليه لا ضعفًا ولا تهاونًا بل التزامًا بما أنزل الله وان الرد الحقيقي على هذه الأفعال البائسة لا يكون بحرق كتب الآخرين المقدسة كما يفعل الجهلة والحاقدين بل بالثبات على المبادئ وفضح التناقضات الغربية في انتقاء شعارات الحرية وحقوق الإنسان واحترام الاديان بما يناسب مع غاياتها

السؤال الذي يفرض نفسه هنا ما الذي يدفع مرشحة للكونغرس في دولة تدعي حماية الحريات إلى مثل هذا التصرف المشين والجواب لا يحتاج إلى كثير من البحث بل يكفي أن نلقي نظرة على سجل فالنتينا غوميز لنعرف أن هذه السيدة لم تأت من فراغ بل هي نتاج بيئة سياسية متطرفة ترى في التحريض على الآخر بطاقة صعود سريعة على سلالم النفوذ السياسي فالتحريض على الإسلام والمسلمين أصبح عند بعض الساسة الأمريكيين جسرا لكسب دعم اللوبيات المتطرفة وفي مقدمتها اللوبي الصهيوني الذي يتقن اللعب على أوتار الخوف والكراهية لتمرير أجنداته العابرة للقارات

تكرار ظاهرة حرق القرآن والاعتداء على الإسلام في الدول الغربية دون رادع قانوني حقيقي يوجب الوقوف عنده بالتفكير العقلاني والتساؤل المشروع لماذا تتحرك المنظومة القضائية الغربية بكل قوتها حين يتعلق الأمر بأي خطاب معاد للسامية بينما تلتزم الصمت والتجاهل أو احيانا التحرك الباهت حين يكون المستهدف الإسلام ألا يعكس ذلك فعلا ازدواجية مقيتة في تطبيق القانون وألا يعني هذا أن حقوق الإنسان أصبحت تُفرز وفقاً لدين الإنسان ومعتقده وليس لإنسانيته وفطرته

إذا كانت غوميز قد حصلت على 7.4٪ فقط من الأصوات في الانتخابات التمهيدية فإن هذا لا يعني أن خطرها انتهى وسقوطها اقترب بل يبين بوضوح أن هناك آلافا قد صوتوا لها رغم سجلها المتطرف وأقوالها الصادمة وماضيها التحريضي الذي شمل اقتحامها تجمعا إسلاميا وتهديدها للمهاجرين والمطالبة صراحة بشنقهم علنا وكأننا عدنا إلى أيام محاكم التفتيش الأوروبية أو إلى أميركا العبودية قبل القرون الغابرة ولهذا لا بد من مواجهة جادة ليس فقط لهذه المهاجرة الحاقدة بل للمنظومة السياسية والامنية التي سمحت لها بالوصول إلى هذه التصرف فضلا عن المؤسسات الغربية التي تنام طويلا على صراخ المظلومين إذا كان المتهم اسمه محمد او احمد

العالم الإسلامي في المقابل مطالب اليوم بعدم الاكتفاء بردود الافعال الغاضبة التي تنطفئ بعد أيام بل عليه أن يواصل الضغط القانوني والإعلامي والدبلوماسي لمحاسبة كل من يحرض على دينه او يقلل من احترام مقدساته وفق المواثيق الدولية وأن يثبت للعالم أن احترام الأديان ليس خيارا وترف بل التزاما ومبدء حضاري لا تكتمل دونه أي قيمة ديمقراطية أو قانونية أو إنسانية

خلاصة القول : لقد ثبت على ارض الواقع أن الاعتداء على المقدسات الإسلامية يؤدي للتعصب والتطرف والحض على الكراهية والعنف ويعطل مساعي الجميع في تمثل قيم حقوق الإنسان وقبول الآخر وتكريس الحوار ويزيد من تفشي مظاهر التمييز الديني والإساءة لمشاعر المؤمنين ومعتقداتهم وبالتالي حقوقهم إن تصريحات فالنتينا غوميز لم تعد تندرج ضمن خانة الرأي السياسي بل تجاوزتها إلى حد التحشيد والتحريض الصريح على ممارسة الكراهية والعنف والدعوة إلى الإبادة الفكرية والدينية وهذا ليس مجرد انحراف أخلاقي يمكن علاجه بل هو جريمة مكتملة الاركان يعاقب عليها القانون الأمريكي نفسه الذي يجرم التحريض على الكراهية الدينية

لكن يبدو أن هذا القانون يدخل في غيبوبة مؤقتة عندما يكون المتهم شخصا أبيضَ البشرة ومعاديا للمسلمين وقد آن الأوان للعالم أن يفهم أن اللعب بالمقدسات لا يصنع حرية بل يشعل فتنة وحروب اهلية وأن من يريد أن يشتهر بإهانة القرآن لن يخرج من التاريخ بطلاً بل سيسجل كأداة مرتزقة دونية ورخيصة في يد العنصرية والكراهية أما القرآن الكريم فسيبقى خالدًا محفوظًا كما وعد الله بقوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى