ما لا يُقال عن دور الأردن في جنوب سوريا !

مهدي مبارك عبد الله

في زحام التحليلات الإقليمية حول الجنوب السوري غالبًا ما يُختصر الدور الأردني في جملة ” وساطة ” أو” مساعٍ للتهدئة ” لكن ما يغيب عن كثير من السرديات هو ما لا يُقال والأهداف غير المُعلنة والحسابات الدقيقة وحدود الحركة التي ترسمها عمّان لنفسها في ساحة تزداد تعقيدًا فهل الأردن مجرد وسيط نزيه أم فاعل إقليمي يتقن اللعب بهدوء على حافة التناقضات في جنوب سوريا وتحديدًا بمحافظة السويداء التي باتت ساحة اختبار لمقاربة أردنية حذرة لكنها ليست خالية من الطموح أو من الرهانات السياسية العميقة

في لحظة وُصفت بالتاريخية أعلن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني خلال مؤتمر صحفي مشترك في عمّان عن التوصل إلى خارطة طريق لمعالجة أزمة السويداء بمشاركة أردنية وأميركية قيل إنها في مضمونها تهدف إلى تعزيز العدالة والصُلح المجتمعي وإعادة بناء الثقة في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية لكن المعضلة كانت في رفض القيادة المحلية وعلى رأسها الزعيم الروحي حكمت الهجري لأي وساطة تنطلق من مفهوم المصالحة باعتبارها غطاءً لإعادة إنتاج السلطة أو فرض وصاية جديدة على المنطقة وهو ما عقّد فرص نجاح المبادرة منذ لحظاتها الأولى

بالدخول الى عمق المشهد المتداخل تتكشّف ملامح التبدلات الحادة التي شهدها الجنوب السوري حيث وجد الأردن نفسه أمام معادلة أمنية حساسة فهو من جهة يسعى لحماية حدوده من الفوضى والتهريب والمخدرات ومن جهة أخرى لا يريد أن يُتهم بالتدخل في السيادة السورية وبين الحذر والحسم رسم الأردن طريقه الخاص وسط العواصف بينما تحولت مشكلة السويداء إلى مرآة تعكس هشاشة التوازنات على طرفي الحدود

ما يميز التحرك الأردني أنه لم يكن رد فعل انفعاليًا بل جاء متكاملًا كتحرك سياسي وأمني وإنساني مدروس يتقاطع مع مصالح أمنية داخلية واستراتيجية خارجية لا تنفصل عن ديناميكيات التراجع الروسي في سوريا وغياب بدائل فاعلة للمبادرة الدولية من هنا ظهرت الوساطة الأردنية كجسر مرحلي يهدف إلى كبح الانهيار لا تقديم حل نهائي لكنه أيضًا يحمل رسالة واضحة بأن عمّان لم تعد تكتفي بدور المراقب الصامت

التوجه الأردني لم يقتصر على مخاطبة دمشق بل وسّع دائرة التواصل لتشمل الزعامات الدينية والقوى المحلية الفاعلة بما يعكس فهمًا دقيقًا لطبيعة الأزمة في السويداء ويكشف عن محاولة لبناء توازن جديد بين السلطة والمجتمع المحلي عبر آليات غير تقليدية تقوم على الاحتواء والتدرج لا الصدام والمواجهة وقد تجلّى ذلك من خلال اللقاءات الثلاثية بين الأردن وسوريا والولايات المتحدة التي ركزت على ضمانات مدنية وأمنية تعيد الثقة وتُبقي الباب مفتوحًا أمام الحل السياسي

خارطة الطريق الأردنية التي تم طرحها تتضمن بنودًا تنفيذية دقيقة تبدأ من وقف الانتهاكات بحق المدنيين وتشكيل مجلس محلي تمثيلي وإعادة الخدمات وتسهيل عودة النازحين ونشر قوة شرطية محلية لضمان الأمن الداخلي لكنها تبقى مرهونة بموقف القيادة الدينية في السويداء التي ترفض حتى الآن الانخراط في دولة سورية مركزية لم تغيّر أدواتها أو تعترف بمطالب السكان

مقابل ذلك أبدى النظام السوري منذ البداية تعاونا ضمنيًا مع المبادرة إدراكًا منه أن بقاء الوضع على حاله يُنذر بخسارة السيطرة الرمزية والسياسية في الجنوب السوري بينما التزمت قوى المعارضة بالصمت الحذر وهي تراقب ما إذا كان الدور الأردني محاولة لقطع الطريق على العسكرة أم لفرض تسوية لا تعبّر عن تطلعات الناس

المفارقة هنا أن الأردن خلال هذه المبادرة حرص على التنسيق مع زعامات درزية في لبنان وفلسطين لتفكيك الطابع الطائفي عن أزمة السويداء ولبناء موقف إقليمي داعم لحلول لا تقوم على الانفصال أو الحكم الذاتي وهي خطوة ذكية تعكس إدراكًا أردنيًا بأن ملء الفراغ لا يعني بالضرورة دعم مشروع سياسي بديل بل احتواء التداعيات ووقف التدهور قبل أن يصل إلى داخل أراضيه

في خلفية هذه المبادرة هناك إدراك عميق لدى عمّان أن الجنوب السوري لم يعد محكومًا فقط بسلطة مركزية بل بات مسرحًا لصراع مصالح خارجية ومناطقية وأن السيطرة على السويداء ليست فقط مسألة سيادة بل أيضًا مسألة نفوذ جيوسياسي ومن هنا جاء التحرك الأردني ضمن مقاربة واقعية توائم بين الحذر الإقليمي والتورط المحسوب

مع أن المبادرة الأردنية بدت شاملة إلا أنها لا تستند إلى ضمانات تنفيذية ملزمة بل تعتمد على التفاهمات والنية الحسنة من الأطراف المحلية والدولة السورية وهي نوايا سرعان ما تنقلب في السياق السوري الذي يُثبت مرارًا أن التفاهمات المؤقتة لا تعني التزامات دائمة خاصة في ظل تضارب المصالح على الأرض وتعدد القوى التي تملك السلاح وتتحكم في المعابر وطرق التهريب

كذلك إن ما يقوم به الأردن في الجنوب السوري يتجاوز الدبلوماسية التقليدية ليمثل نموذجًا للدبلوماسية الوقائية التي تحاول ترميم التشققات بأدوات ناعمة ولكن دقيقة ومع أن هذا النموذج يعكس نضجًا في الأداء السياسي الأردني إلا أن نجاحه مشروط بالقدرة على التحول من الرمزية إلى الواقعية ومن التهدئة إلى إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع بما يكفي لطمأنه الناس لا إخضاعهم

لا شك بان عدة جماعات مسلحة داخل السويداء قد تجد في تنفيذ خارطة الطريق الاردنية تهديدًا مباشرًا لنفوذها ومصالحها غير المشروعة من خلال شبكات التهريب والسلطة غير الرسمية وهو ما قد يدفعها لتعطيل الحل أو تأجيله ما يجعل المبادرة الأردنية مرهونة أيضًا بتوازنات داخلية معقدة لا ترتبط فقط بدمشق بل بالقوى الناشئة داخل المحافظة نفسها

القراءة الأوسع للمشهد تكشف أن الأردن يتحرّك في حقل ألغام ولا يتدخل فقط لمنع الفوضى بل أيضًا للحفاظ على مقومات الدولة السورية الموحدة دون تبني سردية النظام بشكل كامل وهي معادلة صعبة تتطلب توازنًا دقيقًا بين الشرعية والسيادة من جهة وبين الواقعية السياسية والضغوط الدولية من جهة أخرى

ما يزيد الصورة تعقيدًا أن الحراك المتمرد في السويداء نفسه ليس حراكًا موحدًا بل هو خليط من المطالب المدنية والهويات المحلية والانقسامات السياسية ما يجعل الوسيط الأردني في موقف دقيق فهو يتعامل مع طرف يصعب توصيفه كممثل شرعي أو موحّد وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات حول من يملك حق التفاوض أو التمثيل في هذا المشهد الفسيفسائي

ربما ما لا يُراد قوله هو أن الأردن يدرك أن تدخله في هذا الملف ليس ترفًا دبلوماسيًا بل ضرورة أمنية واستراتيجية فكل تأخير في ضبط الوضع جنوب سوريا يعني تمدد الفوضى نحو الداخل الأردني ومع ذلك فإن استمرار المبادرة من دون غطاء دولي واضح أو شراكة أممية فعالة قد يجعلها عرضة للتجميد أو التآكل البطيء

لهذا لا يمكن فهم الدور الأردني في الجنوب السوري دون العودة إلى الجغرافيا حيث حدود ممتدة مع محافظة درعا والسويداء وتاريخ من التداخلات الاجتماعية والاقتصادية لكن ما يحرك عمّان اليوم ليس القرب الجغرافي فقط بل الهواجس الأمنية المتجددة من تهريب المخدرات والسلاح إلى نشاط الميليشيات وصولًا إلى موجات النزوح المحتملة من هنا تتقدّم عمّان بخطاب “الوساطة” لكن الدافع الحقيقي غالبًا ما يكون احتواء المخاطر قبل أن تطرق الأبواب

الملاحظ ايضا إن الأردن يدير هذه الوساطة في ظل تراجع نسبي في حضوره الإقليمي قياسًا بما كان عليه سابقًا في ملفات أخرى كالقضية الفلسطينية أو العراق أو حتى ملف اللاجئين السوريين وهو ما قد يفسر رغبته في استعادة وزن دبلوماسي عبر الجنوب السوري ولكن ضمن حدود لا تثير حفيظة اللاعبين الكبار

ما يقوم به الأردن في السويداء يعكس تحولًا في وظيفة الوسيط من دور المراقب إلى دور الفاعل ومن سياسة الحياد الصامت إلى سياسة الانخراط المحسوب لكن هذا التحول رغم هدوئه يحمل في طياته رهانات كبيرة فهل ينجح الأردن في تحويل هذه الوساطة إلى مسار دائم للاستقرار أم أن تشابك المصالح الدولية والداخلية سيعيد إنتاج الفوضى ويجعل من المبادرة مجرد لحظة عابرة في صراع مفتوح لا ينتهي

من جهة اخرى يمكن القول بان الحراك الاردني يشكل جزءا من محاولات أكبر لتعزيز ما يعرف بالأمن الحدودي العازل أي بناء منطقة جنوبية سورية مستقرة نسبيًا وخالية من التهديدات النابعة من الفوضى والفقر وانتشار الميليشيات وهي محاولة تندرج ضمن فلسفة أردنية تقليدية ترى في استقرار الجوار شرطًا لأمن الداخل لكن هذا الطموح يصطدم بمعادلات داخل سوريا نفسها حيث لا تزال الدولة المركزية ترفض أي ترتيب لا يخضع لإرادتها الكاملة

ختاما : قد يعتقد البعض ان نواياها هذه الوساطة ربما ليست بريئة من الحسابات ولا بعيدة عن معادلات النفوذ ولا مفصولة عن لحظة إقليمية تعاد فيها كتابة خرائط التأثير بلغة ناعمة لكنها حادة حيث في ظاهرها تهدئة وفي باطنها تنافس على المساحات الفارغة وعلى الخيوط الرخوة وعلى المناطق التي لا تزال تنتظر من يعيد تشكيلها بميزان الحذر لا بميزان القوة

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى