ردّ .. على ترامب حصولك على جائزة نوبل هو الإهانة الحقيقية لأميركا

مهدي مبارك عبد الله
في تصريح وقح ومتعجرف حمل طابع الغرور السياسي والافتقار الواضح لفهم مقاصد الجوائز الدولية كما دلل على سلوك البلطجية والمافيات وارباب السوابق قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب في معرض حديثه خلال اجتماع عسكري حاشد ورفيع المستوى عقد في قاعدة ” كوانتيكو ” بولاية فرجينيا يوم الثلاثاء الماضي 30 سبتمبر / ايلول 2025 مع كبار القادة العسكريين أن ( عدم حصولي على جائزة نوبل سيكون إهانة كبيرة للولايات المتحدة( حيث عبر عن رغبته العلنية في تتويج مسيرته المثيرة للجدل بجائزة نوبل للسلام في مفارقة صادمة تتطلب التوقف والتحليل لا من باب السجال السياسي بل في اطار حماية المعايير الأخلاقية والقانونية التي تحكم أهم الجوائز العالمية وكأن ترامب لا يدرك بأن تاريخه السياسي والدولي الملطخ بدعم الاحتلال والقمع والقتل هو الإهانة بعينها وأن الجائزة المرموقة ستفقد مصداقيتها وقيمتها إن أصبحت مكافأة تعطى لمهندسي الحروب والدمار لا لصناع الامن والسلام
تصريح ترامب الفج والمشويش أثار موجة كبيرة من الدهشة والاستنكار في الأوساط الحقوقية والأكاديمية والإعلامية سيما وان هذا الادعاء لا يمثل مجرد رأي شخصي لرجل سياسي بل يعكس خللًا عميقًا في فهم معايير الجائزة وتوظيفً رخيص لمسألة عالمية نبيلة من اجل خدمة طموحات فردية ذات طابع اعلاني وسلطوي لا يمت لقيم السلام والإنسانية بصلة حيث حرص ألفريد نوبل مؤسس الجائزة وفق وصية على ان تعطى لتكريم من يقدم خدمات عظيمة للبشرية في مجالات العلم والأدب والطب والجهود المبذولة لإحلال السلام لا لمن ينشر خطاب الكراهية والاساءة ويؤجج الصراعات ويستخدم أدوات الدولة في القمع والتفتيت وهو بالضبط ما قام به ترامب خلال فترة رئاسته الاولى والثانية وما سيقوم به بعدهما
أقل ما يمكن وصف فيما قاله ترامب أنه كلام اعلامي واستعراضي هابط ومشحون بالابتزاز السياسي وكأن الجائزة وُجدت لترضية غرور رؤساء مهزومين أخلاقيًا وسياسيًا وإنسانيًا وليس لتكريم من ساهموا في حفظ الدماء وصنع السلام وخدمة البشرية لكن الأدهى من التصريح نفسه أن ترامب كان يتحدث امام ضباطه جنوده من موقع الجلاد لا من موقع الساعي للسلام خاصة وهو يتعامل بتبجح وفوقية مع المؤسسات العالمية كما لو كانت شركات صغيرة تابعة لإمبراطورتيه الشخصية فهل أصبح السلام يقاس بمستوى التهديد والقوة
يعلم الجميع ان ترامب لم يكن مجرد رئيس مختلف فيه وعليه بل كان رأس حربة لنهج سياسي تعمد تقويض الأعراف الديمقراطية ويدفع بالمجتمع الأميركي نحو الفوضى والانقسام على أساس عرقي وأيديولوجي ومناطقي وان تصريحاته الأخيرة من قاعدة كوانتيكو بولاية فرجينيا والتي تحدث فيها عن “حرب من الداخل” وضرورة تعبئة الجيش لقمع ما وصفه بـ”العدو الداخلي” تكشف عن عقلية عسكرية تسلطية غير مسبوقة في تاريخ الرؤساء الأميركيين الحديثين خصوصًا حين يقارن المرء بين نهجه ونهج رؤساء سابقين التزموا في مخاطبة القوات المسلحة بلغة توحيدية مهذبة لا تزرع الخوف بين المواطنين ولا تصنع عدواً داخلياً فكيف يمكن لشخص يهدد باستخدام القوة العسكرية ضد مواطنيه ويضعهم في خانة “العدو” أن يطمح لنيل جائزة تمنح غالبًا لمن يعملون على التهدئة وبناء الجسور وتحقيق المصالحة الوطنية والدولية
في سياق السياسة الخارجية ما قدمه ترامب لم يتجاوز كونه دعماً مطلق وغير مشروط لأكثر الحكومات تطرفًا في تاريخ إسرائيل وتحديدًا فيما يتعلق بالحرب الأخيرة على غزة حيث لم يتردد في الضغط المباشر على الفصائل الفلسطينية لنزع سلاحها والقبول بما يسمى بـ”خطة ترامب للسلام” والتي لم تكن في جوهرها سوى مشروع مكشوف تصفية للقضية الفلسطينية تحت مسميات دبلوماسية وهمية وزائفة وهو نفسه قالها بوضوح ( نحن بحاجة إلى توقيع واحد فقط وإذا لم نحصل عليه فسيدفعون الثمن في الجحيم ) هذه اللغة التسقيطية والغير أخلاقية التي يهدد بها شعب بأكمله بالإبادة إن لم يخضع لمطالب دولة أخرى لا تنتمي لمعجم السلام بل تقود جحافل الاستعمار والقمع والإذلال اليست هذه المواقف وحدها تكفي لإقصائه أدبيا وسياسيًا عن أي قائمة مرشحين لجائزة يفترض أن تمنح لصناع السلام لا لمهندسي الابتزاز والشيطنة والعدوان
منذ وصوله إلى البيت الأبيض عام 2017 انتهج ترامب سياسات تصادمية محليًا ودوليًا وغذّى الانقسام العرقي والسياسي ودعم نظريات المؤامرة والاستعداء وشجع على عسكرة الشوارع وتنظيم المليشيات وسجله حافل بالمواقف المحرضة على الكراهية الدينية والتمييز العنصري سواء من خلال قراراته المتعلقة بمنع دخول مواطني عدة دول إسلامية أو تهاونه مع حركات تفوق العرق الأبيض مما يشكل وصمة في جبين القيم والموروثات الأميركية التي تزعم الدفاع عن التعددية والحرية حيث جعلت هذه السياسات السامة من الولايات المتحدة في عهده دولة منقسمة أكثر من أي وقت مضى وأفقدت مصداقيتها على الساحة الدولية وتحولت إلى مصدر توتر بدلاً من أن تكون رافعة للاستقرار والامن والسلام العالمي
ما هو أخطر من ذلك ما يشاع عن محاولات ضغط مارسها ترامب وحلفاؤه من اصحاب البؤر النتنة على فريق لجنة نوبل أو من يدور في فلكها لترشيحه للجائزة من خلال ترويج سلعة المشروعات المشبوهة للسلام أو عبر التلاعب بالمفاهيم والمبادئ رغم ان ما يسمونه بإنجازات سلام لا تعدو كونها اتفاقات تطبيع احتيالية مشبوهة تمت دون رضا الشعوب وبالتواطؤ مع أنظمة لا تمثل طموحات الجماهير العربية ولا تطلعاتها التاريخية للعدالة خصوصا وان هذه الاتفاقات لم توقف حربًا ولم تستعد حقوقًا ولم تُنهِ احتلالًا بل كانت مجرد توظيف سياسي ومصلحي لقضية العرب المركزية وتحويلها إلى أوراق تفاوضية في يد صانع الصفقة الهلامية الكاذبة على طريقة نمو الطحالب السامة والعشوائية
كما استعان ترامب ببعض الشخصيات والمؤسسات الموالية له سياسيًا واقتصاديًا لتمارس التهديد غير المباشر أحيانًا في سابقة خطيرة عبر تاريخ الجائزة التي يجب أن تصان من التدخل والاختراق السياسي والإعلامي المرتهن لمحاولة فرض اسم ترامب بالقوة على لائحة المرشحين لتصبح إهانة مشينة للمؤسسة العالمية واعتداء سافر على ذاكرة رموز السلام الحقيقيين الذين ناضلوا في وجه القمع والعنصرية والاحتلال والاضطهاد
ليس من عجيب القول ان ترامب لم يكن يومًا وسيطًا نزيهًا بل كان شريكًا كاملاً في الجريمة حيث نقل السفارة الأميركية إلى القدس وقونن الاعتراف بالجولان السوري المحتل كأرض إسرائيلية وقدم الدعم اللامحدود لحصار غزة وجريم المقاومة وهذه بعض من المحطات السوداء والمخزية التي تضع ترامب في خانة المتواطئين مع الاحتلال والإجرام لا مع فريق الساعين للسلام والعدل فكيف لمثل هذا الرجل الاهوج والمنفلت أن يجرؤ على مجرد الحديث عن نوبل بل وكيف يعتقد جازما بأن الجائزة يجب ان تمنح له لكونه قرر أن العالم يجب أن يدور في فلكه الاثيري الملوث
الأمر في اعماقه لا يتعلق بشخص ترامب فقط بل بما يمثله من اتجاه سياسي وأخلاقي يتناقض جذريًا مع روح نوبل إذ لا يمكن إغفال مسؤوليته المعنوية والسياسية عن موجات العنف الداخلي التي شهدتها الولايات المتحدة لا سيما اقتحام الكونغرس الذي مثّل ذروة التحريض على الانقلاب الديمقراطي والتمرد على نتائج الانتخابات الحرة فهل من المقبول أن يُكافأ رجل لم يعترف بالخسارة القانونية ووقف في وجه مؤسسات الدولة الدستورية والشرعية وساهم في شحن الشارع بأكاذيب موثقة وشعارات فاشية ان يمنح جائزة هي حق لمن كافحوا الأنظمة القمعية وأعلوا من شأن الحرية والكرامة وحقوق الإنسان ( اذا كنت لا تستحي فاصنع ما تشاء )
الإنجازات العظيمة التي يدعي ترامب أنها تؤهله لنيل نوبل ليست سوى وهم تسويقي يقوم على تضخيم الدور الأميركي في قضايا لم تكن فيها الولايات المتحدة سوى طرف منحاز أو مدفوع بحسابات المصالح السياسية والانتخابية وليس المبادئ فخطة التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل مثلًا لم تكن نتاج رؤية سلام إنساني بل جاءت في إطار ترتيبات جيوسياسية براغماتية خدمت مصالح الأنظمة وليس الشعوب وعمقت ضياع القضية الفلسطينية أكثر مما عالجتها ومن هذا الباب فإن أي اعتبار لتلك الخطوات كمبرر لمنح نوبل هو تحريف صريح ونشاز لجوهر الجائزة وقيمتها
إذا كانت هناك إهانة فعلية ستصيب امريكا فهي تأتي عندما يطرح اسم دونالد ترامب أصلًا في هذا السياق النبيل لا حين يستبعد منه وإن المنظومة الأخلاقية والإنسانية العالمية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تقف في وجه موجات التزييف والابتزاز والتلاعب بالحقائق لأن احترام الحقيقة أساس أي سلام وترامب بكل ما يمثله من لغة عنصرية ونهج إقصائي ودعم للعداوات المروعة لا يستحق نوبل ولا حتى مجرد ذكر اسمه على هامشها فالجائزة لم تخلق للزعماء المستبدين أو قادة الحروب فاقدي الاخلاق والانسانية بل للذين رفعوا راية العدالة على جراح العالم وإن كانت لدى ترامب أي ذرة كرامة سياسية أو إدراك للواقع فعليه أن يصمت لا أن يطالب بجائزة لا تليق بتاريخه في الماضي والحاضر
المدهش ان هذه الجائزة النبيلة ليست أداة للعلاقات العامة ولا منبرًا لتبييض سجلّات الدم والعدوان وقد منحت عبر التاريخ لشخصيات عظيمة ممن قاموا بأكثر أو أفضل عمل من أجل حماية الكرامة البشرية او التقريب بين الأمم أو تقليل انتشار الحروب والجيوش أو تنظيم مؤتمرات السلام او محاربة العنصرية
لن تكون الجائزة يومًا وسام سياسي لزعماء الدول العظمى بالنظر لمواقعهم حيث سعت دائمًا للبحث عن شخصيات ساهمت بملموسية وأثر في حماية الأرواح ووقف النزاعات وتكريس العدالة الدولية من امثال مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا والأم تيريزا وملالا يوسفزاي وديزموند توتو وماري كوري وغيرهم حيث يكون الفارق الواضح بين الإنجازات والادعاءات والتضحيات والتصريحات وان أي مقارنة بين هؤلاء وبين ترامب ليست فقط ظالمة بل مهينة وتسقط تاريخ الجائزة كله والسؤال الجوهري هنا ما الذي قدمه دونالد ترامب فعلاً ليؤهّله لنيل هذا التقدير الدولي
بكل صراحة وصدق ومن موقعي ككاتب عربي ومسلم اقول لترامب حين ترفضك جائزة نوبل فهي لا تهين أميركا بل تصون سمعتها وتحفظ مكانتها وكرامتها لان حصولك على نوبل ( لا قدر الله ) هو الإهانة الحقيقية لأميركا وشعبها ونضالها ولتاريخ الجائزة وماضي كل من استحقوها وان رفضك من نوبل هو إنقاذ لأميركا من فضيحة أخلاقية تتوارثها الاجيال القادمة واقسم لك انه حين ترفض نوبل المجرمين امثالك واعوان القتلة اشباهك فهذا احترام عظيم لأميركا لا إهانة لها والعار الحقيقي والطامة الكبرى أن تُمنح جائزة نوبل لرجل مثلك يا ( ابو ايفانكا وصهر كوشنر وحليف نتنياهو )
ختامًا : إن كانت جائزة نوبل تمثل قيمة أخلاقية حقيقية فعليها أن تبقى عصية على الابتذال والابتزاز والسقوط وأن تحبط كل محاولات ترامب أو غيره لتزييف المعايير وتسويق الأكاذيب لأن العالم لا يحتاج إلى مزيد من النفاق بل إلى رموز حقيقية للسلام لا تجار حرب يرتدون عباءة الصلح والاصلاح زيفً وخداع
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]