العين الثالثة: إضاءة في رواية ثالث ثلاثة

بلقيس عثامنه
يمثل الأدب مرآة تعكس حياة الشعوب، إذ يعالج مشكلات المجتمع ويسلط الضوء على قضاياه وخفاياها، وتدور التجربة الروائية دوما خلف الأقنعة وما وراء الحقيقة؛ لتطرح القضايا الهامة على طاولة النقاش ولتضيء جزءا في وجدان القارئ وتعجله أكثر خبرة وانفتاحا على العالم من حوله.

وبناءً على هذه النظرة للأدب جاءت رواية ثالث ثلاثة للدكتور أشرف مسمار، تمس المجتمع وتحاول معالجة قضايا عديدة تواجه المجتمع دون أن يدرك حساسيتها، إذ تعرض الرواية لهشاشة النفس البشرية وتضعضعها وانجرافها إن لم تمتلك الوازع الحق والارتباط السليم بالقيم والدين.
وهذا ما حدث مع بطلة الرواية “يم” التي فقدت، في طفولتها أهم ركيزة في حياة الطفل الأم والأسرة، ما أدى إلى خلل في بناء الشخصية وتكوين الذات، وبالتالي نقص في الجوانب الروحية والوجدانية والدينية والأسرية، ويمكن اختصار المشكلة بضياع الهوية وفقدان البوصلة في الحياة.

تعالج الرواية مشكلة اجتماع العوامل التي تسهم في فراغ الداخل، هذا الفراغ الذي يودي بالإنسان إلى الطريق الخاطئ رغبة منه في تحقيق ذاته وتحريره من قيوده، فالهشاشة الروحية وضياع الهوية إضافة إلى ضحالة الثقافة تشكل العائق الأهم في وجه الشخص وتقدمه في الحياة.
تماما كما حدث مع “يم” التي أودت بحياتها نتيجة قرارات خاطئة ودعم من أشخاص سيئين، ف “يم” ضحية لانعدام الثقة بالنفس والتفكير المحدود إضافة إلى فقدان ركائز أساس في بناء الطفل ألا وهي التربية والتوجيه والتعليم والعطف.

خواء الروح مشكلة جعلتها تنظر إلى القضايا من حولها بعين السلبية والتشاؤم، ربما لفقدانها عنصر الحنان في طفولتها سخطت على نفسها لأنها امرأة، فدفنت أنوثتها بعيدًا في روحها الخاوية حتى نسيت السبيل إليها، ورأت أن القوة والتسلط هي أساس الحياة.

نظرت “يم” إلى عذابات المرأة في العالم تاريخيا، ولم تنظر للمرأة بعين الواقع والدين، لم تنظر إلى المرأة بأن أساس قوتها وسر وجودها ضعفها وأنوثتها، فتمادت في البحث عن الرجولة في داخلها؛ هربًا من المرأة والأنوثة، وبحثًا عن الأمان الذي افتقدته طيلة حياتها، ظنا منها أن الرجل أعلى درجة، أقوى بنية وأكثر قدرة على التعامل مع الحياة بغية التسلط ولذة الانتصارات بالعضلات، وأغفلت قوة العقل والذكاء في إدارة المواقف.

إن الأمان هو الشعور الأول والأهم في حياة الإنسان، فمن ينعم بالأمان يجد الطريق أكثر سهولة ويؤمن بنفسه وقدراته، وهذا ما فقدته الشخصية، فلا أمان قرب الأب ولا الزوج ولا في أرض غربة احتوتها ضعيفة غضة الجناح، ووجدت السكينة والابتسامة الخادعة وتنميق الكلام وإتاحة الفرص لدى الإنسانة الخطأ، وظنت أن الأمان يتحقق بالقوة والسيطرة، وبهذا كانت “يم” ضحية بحثها عن ذاتها وعن الأمان عند الشخص الخطأ، ما أودى في حياتها، في رسالة مضمرة في النص تدعو الإنسان للنظر بما خلف الكلمات والسلوكيات، والتفكير بموضوعية والابتعاد عن رواسب الماضي في اتخاذ قرارات المستقبل.

تقضي الرواية في رحلة تعريف القارئ منعطفات حياة الشخصية راحلة إلى المجهول في كل مرة، لتجعل الحياة رحلة تعرف نهايتها ولكن لا يمكن الحكم عليها دون خوض غمار بحرها.

ومن القضايا التي توقفت عندها الرواية، إضافة إلى دور الأسرة والأم، تحديدًا، قضية الهجرة ونظرة كل من الشرق والغرب أحدهما إلى الآخر، انتهاك حقوق الإنسان وحياته، العبث في هويته وأحلامه، حتى يتم تهميش داخله وإقصاء حضوره وحقه بالحياة، وبالتالي يبحث عن مهرب ليتمكن من التقاط أنفاسه، يجد هذا المنفس في الغرب، هذه الصورة الحضارية المنفتحة الجميلة، وريثما يخالطها حتى يجد سوء الفهم الذي امتلكنا في نظرتنا له؛ فالغرب سيء مسيء، يختلف بقيمه وعاداته عن الفطرة السليمة والتقاليد التي اعتاد عليها العربي في الشرق.

هذا الصراع الحضاري نقطة هامة في قراءة العمل وفي مساءلة القارئ لنفسه عن هذه الخدعة الكبرى التي تم ترويجها الغرب الانفتاح والتقدم، مقابل صورة الشرق القمع والتخلف، وهنا يكمن الأمر الهام في أن يعيد الشرقي مراجعة هذه الصورة الزائفة وإعادة بناء العلاقات بطريقة سليمة، وتصحيح النظرة للغرب وجعلها أكثر واقعية، وإن تم الترويج لخلاف هذا.

كما تناقش الرواية امتهان الإنسان في رحلته للحياة بعيدًا عن الحرب وويلاتها، فالمفارقة العجيبة أن الإنسان يبحث عن حريته وحقوقه وحياته الكريمة هربًا من الحروب وذلك باختيار طريق الهجرة غير الشرعية وبالتالي يقع في مأزق الرحلة والاستغلال والحبس والرعب والسير لأيام رفقة الوحوش المخاطر وغيرها من ويلات الهجرة غير الشرعية، وهنا التهكم، إذ يهرب الإنسان من موت إلى موت بطريق من الموت، فالغرب خدعة، والدرب شاق وخطر ويمتهن إنسانية الإنسان، وهذا يعود بالقارئ إلى سؤال فلسفي، لماذا اضطر الوطن أبناءه إلى سلوك هذا الدرب؟

في ختام رحلة الموت تموت يم بعد أن انتقلت في رحلة مؤلمة وصعبة إلى الغرب الذي رأته بصورة مشرقة لكنه سلب إشراقة روحها وجرفها تياره الشاذ إلى ويلات وويلات حتى انسلخت عن ذاتها وأصبحت شبحًا بلا هوية، لم تعِ يم في رحلتها أن السر يكمن في أعماقها، في جوهرها هي، في أن تتعرف على ذاتها وتدرك مكامن قوتها الخاصة ونقاط إشراقها، في أن تعي أن تميزها في أنوثتها ورقتها، أن اختلاف قصتها يجعلها متفردة، أن تثق بذاتها، وهذا ما لم تفعله فأودى بحياتها، وكانت ضحية للانجراف خلف الغرب، ضحية لأسرتها التي لم تعمل على إعدادها لمجابهة الحياة، ضحية التفكك الأسري، ضحية لوطنها سوريا الذي لفظ أبناءه، وضحية لقلة ثقافتها وسذاجة فكرها وتسرعها، ضحية لانبهارها وخداعها لنفسها.
ختامًا، تطرح الرواية عددا من القضايا الهامة والتي تمثل مشاكل مجتمعية حاضرة، في دعوة لإعادة النظر ومحاولة معالجة هذه القضايا لا كأفراد فقط بل كمؤسسات أيضًا، هذا الفضاء الأدبي يمزج بين جوانب: الإبداع، الطب، الأخلاق، وقضايا المجتمع، في محاولة لطرح القضية وإيجاد الحلول بمعرفة الأسباب وموضع الجراح ثم العرض بين يدي القارئ، لذا يمكن القول بأن الكاتب أجاد إيصال رسالته في هذه الرواية بطريقة تخدم رؤيته وتتوافق مع كفاءته الإبداعية.

من الناحية الفنية، ورغم ما تحمله الرواية من ثراء في القضايا المجتمعية والفكرية التي تطرحها، فإن الجانب السردي جاء أقل قوة من مضمون الفكرة؛ إذ طغى البعد التقريري والمباشر على الأسلوب إضافة إلى اعتماد التكرار لإيصال الفكرة المباشرة، وغابت أحيانًا المسافة الفنية بين خطاب الروائي وخطاب المصلح الاجتماعي، كما أن البناء السردي لم يقدم تعقيدات كثيرة تعود القارئ على تذوقها في الأعمال الروائية ذات الحبكة المحكمة، ما جعل النص أقرب إلى خطاب فكري اجتماعي علمي مغلف بالثوب الروائي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى