بين الشتاء والصيف… حين تتنفس الأرض طاقتها الخفيّة

د. عمّار محمد الرجوب

ما بين برودة الشتاء و  لهيب الصيف ، ثمّة سرٌّ كونيّ لا يُدركه إلا من يقرأ الأرض بعين الروح قبل عين العلم، ويصغي إلى همس الفصول كما يُصغي العاشق إلى نبض من يحب بين الشتاء والصيف.

فالفصول ليست تبدّلًا في الطقس فحسب، بل حوارًا فلسفيًّا بين الحياة والموت، بين التجدد والانكماش، بين السكون والانبعاث. في كل قطرة مطر تسقط في كانون، تُكتب مقدمة ضوءٍ يولد في حزيران، وفي كل زهرةٍ تخنقها الثلوج، تسكن طاقة تنتظر لحظة التحوّل الكبرى بين الشتاء والصيف.

الشتاء ليس بردًا، بل استراحة الكون من ضجيج الإنسان، وانسحاب الطبيعة إلى عمقها كي تعيد ترميم أسرارها. والصيف ليس حرًّا، بل انفتاح الأفق على الامتلاء، حيث تصرخ الأرض: لقد اكتفيت! فتنثر خيراتها في وجه الوجود.

بين الشتاء والصيف، ترقص الطاقة على خيطٍ رفيعٍ من التوازن، وكأنها تقول للبشرية: إن الاعتدال سرّ البقاء، وإن المبالغة في أيّ شيء—بردًا كان أم حرًّا، اقتصادًا كان أم سياسة، حبًّا كان أم كراهية—لا تلد إلا العطب.

في البعد النفسي، الإنسان ابنُ الفصول كما الأرض. ففي الشتاء، يميل إلى الانكماش، إلى دفء ذاته، إلى التأمل في صمته الداخلي، كأنه يكتب سيرة قلبه في عزلةٍ هادئة. أما في الصيف، فيفيض بالحركة والانطلاق، يغدو أكثر اندفاعًا، وكأن حرارة الشمس تُذيب جليد خوفه، وتدفعه نحو الحياة. وبين هذا وذاك “بين الشتاء والصيف”، يتأرجح مزاجه كما تتأرجح الأسواق، كما تتبدّل السياسات، كما تتنفس المدن في رتابةٍ تبحث عن معنى.

في فجرٍ لم يعرف الكتابة بعد، حين كانت الصخور تنطق بالحكمة، والرياح تكتب أسرارها على وجوه الجبال، كان الكائن الأول يمد يده إلى الشمس ويقول بلغةٍ لا تُترجم: “نورٌ… يُنبتُ الظلّ”. لم يكن يدرك أنه في تلك اللحظة يوقّع مع الأرض عهدًا سرمديًّا؛ أن لا فصلٌ يدوم، ولا موتٌ يبقى، ولا ظلمةٌ إلا وفيها حبةُ ضوءٍ تولد. كان يعرف بالفطرة أن التراب ذاكرةُ الوجود، وأن كل موجة ريحٍ تحمل سرّ السنين القادمة. ومن فهم تلك الإشارة، أدرك أن الفصول ليست ظواهر… بل رموزٌ مكتوبة على جبين الزمن، لا يقرأها إلا من رأى بعين القلب قبل العقل.

سياسيًّا، يشبه الشتاء تلك الفترات التي تنكمش فيها الأمم على جراحها، تستعيد وعيها، تعيد ترتيب قواها من الداخل. بينما الصيف هو موسم الخطابات والحراك والازدهار، لكنه أيضًا موسم الغرور الإنساني حين يظن أن النور دائم. في الاقتصاد، الشتاء هو زمن الادخار والتقشف، والصيف موسم الإنفاق والمغامرة، وبينهما تدور عجلة النمو أو السقوط بين الشتاء والصيف.

واجتماعيًّا، ما بين البرد والحر، تتبدّل سلوكيات الناس، وتتشكل فلسفة التعامل مع الوجود. فالمجتمعات التي تفهم قوانين الطبيعة تفهم قوانين النهضة؛ لأن الوعي البيئي هو مرآة الوعي الإنساني. فحين نحترم توازن الأرض، نحترم أنفسنا، وحين نفسد مناخها، نُفسد مزاجنا الجمعي ونُعكّر أرواحنا دون أن ندري.

والطاقة الإيجابية التي تنبع من الأرض ليست فكرة غيبية، بل علمٌ حيّ يتجسد في كل شجرةٍ تنبت رغم الصقيع، وفي كل زهرةٍ تنبت من شقّ صخر. تلك الطاقة هي التي تبقي الكوكب نابضًا، والإنسان واقفًا رغم الانكسارات. إنها طاقة الله في الخلق، المودعة في ذرات التراب، وفي مجرى الرياح، وفي كل قلبٍ يحيا بين الحلم والخوف.

حين تتصالح الأرض مع شمسها، يتصالح الإنسان مع ذاته، ويكتشف أن ما بين الشتاء والصيف ليس اختلافًا في الطقس، بل درسًا في الحكمة: أن لا دوام لجمودٍ ولا ثبات لحرارةٍ، وأن الاعتدال هو ميزان الوجود الذي يحفظ الكون من الجنون. وما أعظم أن نعي أن الطاقة التي تخرج من رحم الأرض، هي ذاتها التي تُشعل فينا الإرادة، وتعيدنا كل مرة إلى الحياة بعد كل موتٍ صغير.

وهنا اقول:
“الذين يفهمون لغة الفصول، لا يخشون التبدّلات، لأنهم يدركون أن الأرض حين تتعب… إنما تستعد لتزهر من جديد.”
واختم بشعري:
من رحمِ شتاءٍ يولدُ صيفُ ضياءِ
ومن ليلِ بردٍ تنبُتُ الأحلامُ في البقاءِ
تعلّمتُ أنَّ الأرضَ تُشبهُ قلبي
تتعبُ… لكنّها لا تموتُ في العطاءِ

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى