ذهب كولومبيا يعالج أطفال غزة وذهب العرب ينعش بنوك الغرب !

مهدي مبارك عبد الله
في عالمٍ تبدّلت فيه الاخلاق والقيم وانقلبت المفاهيم والمعايير صار الذهب الكولومبي المصادر من تجار المخدرات أطهر وأنفع من الثروات العربية الهائلة التي تراكمت في خزائن بعض الحكّام والاثرياء او نلك المحفوظة في الملاذات الامنة في جزر كايمان وامريكا وهونغ كونغ وجزر فيرجن البريطانية وسنغافورة ولوكسمبورغ وهولندا بينما شعوبهم تموت جوعًا وتحتضر قهرا في غيابات البؤس والحرمان والضياع
الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو اذهل العالم بقراره المشرف والشجاع حين أمر بتحويل ذهب عصابات الجريمة المنظمة الى غزة لعلاج أطفالها الجرحى والمسامة في عمليات الاعمار ليقدم بذلك درسًا ملهما في الإنسانية والشهامة والكرامة بينما يقف بعض ملوك ورؤساء وامراء القصور الاسطورية الفخمة يقفون عاجزين ومترددين وخائفين ولا يُسمع منهم سوى صدى خطواتهم في أسواق أوروبا وصالات القمار ونوادي الرقص ومزادات سباق الخيول و ومهرجاناتٍ الغناء ومعارض السيارات وغيرها
لقد أدرك الرئيس بيترو بضميره الحي ومع استمرار الابادة في غزة أن الذهب الحقيقي ليس ما يُرصّع المعاصم ويملاء الصدور أو يُخزن في البنوك الغربية بل ما يُنقذ الأرواح وينير دروب الأمل للشعوب المنكوبة حيث حوّل أموال الجريمة إلى دواءٍ وحياة فيما حوّل زعماء الثروة العربية أموال الشعوب والأمة الى ممتلكات خاصة من يخوتٍ وطائراتٍ وبذخٍ خرافيٍ لا مثيل له وكأنهم يتنافسون على شراء الصمت والضياع والحماية والامن بأغلى الأثمان
في كولومبيا تُصادر الدولة ذهب تجّار الموت لتداوي به جراح غزة بينما في بعض العواصم العربية تُصادر كرامة الشعوب وتكمم افواههم ويزج بهم في السجون لتبقى عروش الملوك والرؤساء هناك تُستثمر الموارد والثروات في إنقاذ حياة البشر وهنا تُهدر في استعراض التفاهات والرفاهية الهابطة فكم من المليارات تُنفق على الترف والمجون بلا حساب بينما الخبز مفقود في كثير قرى العرب والدواء بات حلمٌ بعيد لأطفالٍ يموتون على اسرة العيادات والمستشفيات
امام العالم الغربي المنحاز قدّم الرئيس الكولومبي مبادرتين في غاية الجرأة والشرف تحويل الذهب المصادَر لعلاج الأطفال الفلسطينيين والدعوة إلى تشكيل قوةٍ دوليةٍ لإعادة إعمار غزة وضمان أمنها بعد الحرب وهي مبادرات خرجت من ضميرٍ إنسانيٍّ صافي يرفض أن يرى الإبادة ويسكت عنها بينما في الجانب العربي تتكاثر المؤتمرات الفارهة والبيانات الفارغة التي تموت قبل أن تجفّ أحبارها
رغم البعد الجغرافي كانت كولومبيا الأقرب وجدانيًا إلى فلسطين وهي ترسل الذهب وتحظر تصدير الفحم إلى إسرائيل لأنها لا تريد أن تُستخدم ثروتها في قتل الأطفال والابرياء بينما بعض دول العرب فتحوا أجواءهم وأراضيهم لنقل الوقود والعتاد والمواد التموينية والخضار والفواكه إلى الاسرائيليين وجيش الاحتلال تحت ذرائع خادعة ومسميات مزيفة من تجارة ومصالح مشتركة فأيُّ خيانةٍ أبين من هذه
الاهم هنا ان الرئيس بيترو قال للعالم إن الإنسانية لا تُقاس بالدين أو العرق بل بالموقف من الجريمة البشعة التي ترتكبها اسرائيل وإن من يصمت على قتل عشرين ألف طفل واكثر من خمسين الف مدني في غزة لا يستحق أن يُسمّى إنسانً كما دعا علنا إلى محاكمة القتلة وحذرًا من انحدار البشرية إلى الهمجية إن لم تتوقف هذه الإبادة نهائيا بينما اكتفى بعض الزعماء العرب بالتفرج على المذابح وتحصيل الأرباح وكأن الدم الفلسطيني بندٌ تجاري محض في حسابات دفاترهم اليومية
ترامب الذي يبتزّ المليارات من بعض حكام العرب من اجل الحماية والأمن هو نفسه من هدد الرئيس الكولومبي لأنه تجرأ على نصرة فلسطين وشعب غزة أما بعض الملوك والرؤساء العرب فلا زالوا يتسابقون لإرضائه بالعقود والهدايا واتباع التوجيهات والتعليمات لنيل رضاه بينما كولومبيا الفقيرة واجهته بكرامةٍ وشجاعة وندية حين وقال رئيسها لترامب اقرأ جيدًا عن بلادنا لتعرف من هو الشريف ومن هو التابع
بين ذهب كولومبيا الذي يطبب جراح غزة وذهب العرب الذي ينعش بنوك الغرب تُرسم حدود الأخلاق والسيادة مع قائدٍ اشتراكيٍّ آمن بالعدالة الإنسانية وقادةٍ عربٍ آمنوا بالبقاء على الكراسي ولو على جماجم أطفالهم وبين رئيسٍ يرى أن شرف الدول يقاس بمواقفها من المظلومين وحكامٍ يرون أن الشرف يقاس بعدد الأبراج والمشروعات الترفيهية ورحلات الاستجمام العائلية
غزة التي تُقصف كل يوم وتُحاصر منذ سنين لا تنتظر صدقات ولا بيانات بل تنتظر مواقف رجالٍ يشبهون بيترو في ضميره وإرادته وغزة ايضا لا تحتاج إلى ترف المهرجانات والمؤتمرات ولا إلى أموال البنوك العربية المجمدة بل إلى روحٍ حرةٍ تقول للعالم إن الذهب الذي يعالج أطفالي أطهر من المليارات التي تشارك في قتلهم
ان ما فعله الرئيس الكولومبي هو إعادة تعريف للسياسة كفنٍ أخلاقيٍ لخدمة الإنسان بينما ما يفعله بعض الحكام العرب هو تحويل السياسة إلى سوقٍ مفتوحة للمصالح والولاءات وموقف الرئيس بيترو سيُذكر في كتب التاريخ كعملٍ خالدٍ من أجل الإنسانية أما صمت بعض الملوك والرؤساء فسيُسجل كعارٍ دائمٍ يلاحق أسماءهم إلى الأبد
غوستافو بيترو لم ينتظر عقد قممً ولا تفويضاتٍ ولا لجانً بل اتخذ قرارًا إنسانيًا واحدًا أن يقف إلى جانب غزة ضد المحتلين القتلة فصار صوته يمثل ضمير العالم الحر بينما تاهت أصوات القصور في ضجيج الصفقات والولائم فكم نحن بحاجةٍ إلى ذهبٍ يشبه ذهب كولومبيا لا إلى ذهبٍ يلمع في القصور ومعارض المجوهرات وكم نحن احوج إلى قادةٍ يشبهون بيترو لا إلى حكامٍ يبيعون الكرامة بثمنٍ بخس
الخاتمة : التاريخ لن يرحم أحدًا فحين يسجل صفحاته عن هذه الحقبة السوداء سيكتب أن كولومبيا الفقيرة كانت أغنى من بعض الملوك والرؤساء والامراء العرب وأن ذهبها أنقذ الحياةً من الموت بينما ذهبهم أنقذ حساباتهم ومكاسبهم كما سيكتب ايضا أن رئيسًا من أمريكا اللاتينية حفظ شرف الإنسانية بينما ضيّعته أمة بأكملها في قصور بأسوار عاليةٍ وبلا نوافذٍ تطل على غزة ولا على الضمير الإنساني
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية