حين تعلّمتُ من الطفولة كيف تُربّي الأمومة ذاتها في قرى الأطفال SOS”

د. عمّار محمد الرجوب

حين تعلّمتُ من الطفولة كيف تُربّي الأمومة ذاتها في قرى الأطفال SOS، أدركت أن هناك أماكن لا تُزار بالقدم، بل تُزار بالقلب، وأن ثمة مساحات من الإنسانية لا يمكن عبورها دون أن تترك فيك أثرًا يشبه النور. عندما وطأتُ قدماي قرى الأطفال في الأردن، ولا سيما قرية إربد، شعرت أنني أمام عالمٍ مختلف، عالمٍ يُعيد للروح اتزانها، وللضمير يقظته، وللأمل صوته الأول. كانت تلك اللحظة بمثابة رحلة إلى جوهر الإنسان، حيث لا يتحدث أحد عن العطاء… لأن الجميع هناك يعيشونه بالفعل.

في قرية الأطفال في إربد، لمستُ المعنى الحقيقي للأمومة البديلة، تلك الأم التي لا تجمعها بالطفل صلة دم، لكنها تحيا معه صلة الروح. كم هنّ عظيمات، تلك الأمهات اللواتي اخترن أن يكنّ ضوءًا في حياةٍ فُقد فيها النور. يربين أطفالًا ليسوا من أرحامهن، لكنهم من أرواحهن، يرعينهم بحنانٍ لا يكلّ ولا يشيخ، كما لو أنهنّ يُربّين العالم من جديد. كل زاوية هناك تحكي قصة دفءٍ استثنائية، وكل ابتسامةٍ تُخبرك أن الحنان إذا تجذّر، لم يعد بحاجة إلى لقب.

لقد رأيتُ في عيون أطفال القرية دهشة الحياة، وفي خطوات الشباب فخر النشأة، وفي حديث الشابات نضوج التجربة. رأيتُ كيف كبروا، وكيف تخرّجوا، وكيف حملوا في داخلهم ذكرى الأمهات البديلات كأيقونة حبّ لا تنطفئ. بعضهم تزوّج، وبعضهم أصبح قائدًا في مجاله، ومع ذلك… لم ينسَ أول حضن احتواه حين كانت الدنيا قاسية. تلك هي التربية التي لا تموت، لأنّها بُنيت على المحبة الخالصة.

وهنا لا بدّ من التوقف أمام الشكر الذي يليق بأهله، فكل منظومة عظيمة يقف خلفها قادة يؤمنون بالإنسان قبل النظام. شكرًا لرئيس مجلس إدارة جمعية قرى الأطفال، المهندس مصطفى الوشاح، على رؤيته النبيلة وقيادته التي تجمع بين الحكمة والرحمة. وشكرًا لأعضاء مجلس الإدارة جميعًا، الذين يعملون بصمتٍ ليُبقوا الأمل حيًّا في عيون الأطفال. كما أخصّ بالشكر المهندسة ماجدة شويات، التي كانت وما زالت نموذجًا للمرأة العاملة التي تُترجم الإنسانية إلى فعلٍ يوميّ لا يعرف التراخي.

وتحية تقديرٍ خالصة للسيد زكريا المومني، مدير قرية الأطفال في إربد، الرجل الذي يعرف كيف يُدير المكان بعقله وقلبه معًا، وكيف يجعل من الإدارة رسالة أخلاقية لا وظيفةً عادية. إنه نموذج للمسؤول الذي يُدير بالحبّ، فيغدو محبوبًا من الجميع.

ولأنّ الخير يجتذب الخير، لا بدّ من كلمة شكرٍ صادقة للمهندس بشار التميمي، مدير عام شركة كهرباء إربد، الذي فتح الأبواب لأبناء القرى وتبنّى قصصهم بإيمانٍ عميق بقيمة الإنسان. لقد ساهم بتوظيف عددٍ منهم في الشركة، ليُثبت أن المسؤولية الاجتماعية ليست شعارًا يُقال في المناسبات، بل التزامٌ وطنيّ يُترجم إلى فرصٍ حقيقية تعيد الكرامة لمن يستحقّها.

أما من الناحية السياسية والإنسانية، فإن قرى الأطفال SOS تُجسّد الوجه المشرق للدولة حين تختار أن تجعل الإنسان مركز سياساتها. فالمجتمعات لا تُقاس بما تبنيه من أبراج، بل بما تُقيمه من ضمائر. وهذه القرى هي مشروع وطنيّ أخلاقيّ، يُعيد التوازن بين الدولة والإنسان، بين السياسات والمشاعر، بين القوانين والقيم. في زمنٍ تتنازع فيه الدول على المصالح، تختار الأردن أن تُراهن على الإنسان، وأن تُثبت أن الطفولة المحمية هي مستقبل الوطن المضمون.

وأقول هنا: إن قرى الأطفال ليست مؤسسة، بل فلسفة وجودية تعلمنا أن التربية ليست تعليمًا، بل محبة منظّمة، وأن الدولة التي تحتضن الضعفاء إنما تحمي نفسها من الضعف. هناك، بين الأمهات والأطفال، رأيتُ فلسفة الحياة كما لم أرها من قبل. رأيتُ أن الأمومة لا تُورَّث، بل تُخلَق من جديد مع كل قلبٍ قرّر أن يحبّ دون مقابل.
“ليست الأمومة أن تُنجِب، بل أن تُحبّ حتى تصيرَ الحياة ممكنة.”

ومن شعري:
يا زهرةً نبتتْ على كفِّ الندى تمشي برفقٍ فوقَ جرحِ الراحلين
إنّ الحنانَ إذا تَجسّدَ أُمّةً غنّت✒️ له الأرواحُ قبل العاشقين

وفي القرى سكنَ المدى متسامياً فاستيقظَ الإنسانُ بين الطاهرين

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى