ماهي الدوافع والخفايا وراء قرار ترامب بالتراجع عن مهاجمة فنزويلا ؟

د . مهدي مبارك عبد الله

في 15أكتوبر الماضي فوض الريس الامريكي دونالد ترامب وكالة المخابرات المركزية ( CIA ) بالتحضير لعمليات سرية في فنزويلا في إطار سياسة تهدف إلى فرض ضغط شامل على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وإضعاف الدولة الفنزويلية اقتصادياً وعسكرياً وتحجيم نفوذها الإقليمي وكان الإعلان الأول بمثابة رسالة تحذير صارخة لكل من يتابع التوتر المتصاعد بين واشنطن وكاراكاس، إذ بدت الإجراءات العسكرية والاستخباراتية على وشك التنفيذ بما يشمل الغارات الجوية وتعبئة الأساطيل البحرية والاستعداد لعمليات هجومية مفاجئة

بعد تذرع ترامب أن فنزويلا أصبحت مصدر تهديد للولايات المتحدة عبر تصدير المخدرات وتسهيل عبور العصابات الإجرامية وهو ادعاء لا يستند إلى دليل حقيقي بقدر ما يعكس نزعة تبريرية لسياسة عدوانية قديمة خصوصا وان الولايات المتحدة تشكل أكبر سوق للمخدرات في العالم ومسؤوليتها المباشرة في تفشي هذه الآفة في العالم لا يمكن إنكارها

المؤكد للعالم ان اتهام دولة مثل فنزويلا بأنها تسعى لتدمير أمريكا من الداخل عبر نشر المخدرات هو افتراء وتضليل دعائي يخفي خلفه أطماعاً في ثروات البلاد من احتياطي النفط والذهب والثروات الاخرى التي تحاول واشنطن السيطرة عليها منذ زمن بعيد كما ان ترامب منذ بداية خلافه مع كاراكاس تعامل بعقلية المستعمر المتغطرس الذي يرى في أمريكا اللاتينية حديقة خلفية له يحق له العبث فيها متى شاء وكيفما أراد وقد أعلنت السلطات الفنزويلية مؤخرا أنها ضبطت خلية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانت تهدف إلى مهاجمة سفينة حربية أميركية ترسو في المنطقة بهدف افتعال حادثة اجرامية وتحميل مسؤوليتها لفنزويلا

الصراع بين واشنطن وفنزويلا ليس وليد الأمس بل هو امتداد طويل من محاولات أمريكية متكررة لإسقاط الحكومات اليسارية التي ترفض الانصياع لإملاءات البيت الأبيض والامثلة كثيرة ولا يتسع المقال لسردها وهوغو تشافيز كان في حياته يمثل كابوساً مرعبا لواشنطن حين كسر التبعية الاقتصادية والسياسية وأعاد تعريف الهوية الوطنية لشعبه ثم انتقلت العداوة إلى خلفه مادورو الذي ورث عبء المواجهة ورفض الخضوع لحصار اقتصادي خانق وسياسات تجويع ممنهجة هدفت إلى إضعاف الدولة وتحويلها إلى تابع ذليل للمصالح الأمريكية المتضاربة

قرار ترامب بإطلاق يد المخابرات المركزية لتنفيذ عمليات سرية قذرة في فنزويلا يعيد إلى الأذهان سجل الولايات المتحدة الطويل في أمريكا الجنوبية من كوبا إلى نيكاراغوا وغواتيمالا وتشيلي حيث كانت الانقلابات العسكرية وصناعة الفوضى أدوات دائمة في يد واشنطن لإعادة تشكيل الحكومات وفرض الزعامات على هواها وهذه ليست المرة الأولى التي تمارس فيها وكالة السي آي إيه حرب الظل بل هي استمرار لنفس النهج الذي بدأ منذ الحرب الباردة والمستمر حتى اليوم

خلال انشغال العالم بالحروب الدائرة في أوكرانيا والمجازر المتواصلة في غزة تسللت الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب نحو البحر الكاريبي لتعيد حشد الأساطيل العسكرية والطائرات الحربية قرب السواحل الفنزويلية في استعراض قوة يذكر بغزو بنما عام 1989 تحت شعار محاربة الإرهاب والمخدرات حيث بدأ التخطيط لعمليات هجومية مبطنة هدفها الاساسي ليس الأمن القومي الأمريكي بل إسقاط النظام الفنزويلي الشرعي واستبداله بآخر مطيع ومنفذ للسياسات الامريكية

في المقابل تمسكت فنزويلا بقوة وتحدي بموقفها الرافض لأي تدخل خارجي حيث أكد مادورو في خطاباته المتكررة أن بلاده ستدافع عن نفسها حتى آخر رمق وقطرة دم وأن محاولات واشنطن لتغيير النظام لن تنجح كما لم تنجح من قبل في إخضاع كوبا أو القضاء على روح المقاومة في شعوب أمريكا اللاتينية الحرة

لقد سبق للولايات المتحدة أن استخدمت الأسلوب المخابراتي ذاته في غواتيمالا عام 1954 حين أطاحت بحكومة جاكوبو أربينز المنتخبة وكررت الأمر في تشيلي عام 1973 بدعم انقلاب بينوشيه على الرئيس سلفادور الليندي كما شجعت انقلابات ومؤامرات في كوبا ونيكاراغوا وغرينادا وكلها شواهد على أن واشنطن حين تعجز عن كسب الحلفاء تختار إسقاطهم بالقوة أو العقوبات أو بالمؤامرات

هذه الأمثلة لا تأتي من الماضي البعيد بل ما زالت تلقي بظلالها على حاضر أمريكا اللاتينية التي لم تتعافى بعد من تبعات تلك التدخلات فكل تجربة تحرر أو مقاومة في القارة تواجه نفس الهجوم المنظم تحت شعارات مختلفة لكنها تنبع من منطق واحد هو السيطرة على القرار والموارد

رغم أن كركاس ليست وحدها المستهدفة إلا أن صمودها سيكون معياراً لمستقبل القارة كلها فنجاحها في مقاومة الضغوط سيعيد للأمريكيين الجنوبيين ثقتهم بقدرتهم على الاستقلال وأما سقوطها فسيغري واشنطن بتكرار السيناريو في بوليفيا ونيكاراغوا وكوبا ودول أخرى ما يجعل المواجهة اليوم مسألة وجود لا مجرد خلافات سياسة فقط

كعادته وبشكل مفاجئ اعلن ترامب يوم الجمعة الماضي 31 / 10 / 2025 من على متن طائرته اير فورس ون عن تراجعه أمام الصحافة حيث صرح أنه لا يعتزم توجيه ضربات لفنزويلا او استهداف نظامها وهو ما أثار تساؤلات واسعة حول دوافع القرار وعن مدى موثوقية التهديدات الأمريكية السابقة كما أعاد فتح النقاش حول أسلوب إدارة الأزمات في البيت الأبيض حيث تبدو القرارات العليا رهينة بالتقديرات الميدانية وضغوط الأجهزة الأمنية والسياسية إلى جانب الحسابات الداخلية المتعلقة بالقاعدة الانتخابية والتغطية الإعلامية

من خلال متابعة تطور الأحداث يمكن تفسير هذا التراجع بعدة عوامل متداخلة أولها أن ترامب كثيراً ما يلجأ إلى التصريحات التصعيدية كأداة ضغط دبلوماسي لاختبار ردود فعل الخصوم وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وثانيها المخاوف من الانزلاق إلى مواجهة عسكرية واسعة أو أزمات قانونية وسياسية داخلية تجعله يحدّ من التنفيذ الفعلي للتهديدات وثالثها ربما إعادة تقييم جدوى العمليات العسكرية والاستخباراتية مقابل تكاليفها المحتملة على المستويين الإقليمي والدولي

لكن التراجع العلني لا يمس فقط صورة الإدارة الأمريكية بل يترك آثاراً عملية على الأرض فكاراكاس تبقى في حالة تأهب دائم وتستمر في تعبئة دفاعاتها وتحشد خطابها السياسي لتقوية الجبهة الداخلية بينما يظل التوتر الإقليمي متصاعداً بفعل التحركات البحرية والجوية الأمريكية وهو ما يجعل المشهد شديد التعقيد لكل من يراقب دينامية القوة والنفوذ في نصف الكرة الغربي وان استمرار حالة عدم اليقين تجعل كل خطوة سياسية وعسكرية أمريكية محكومة بالعشوائية والارتجال ما يزيد من مخاطر تصعيد غير محسوب قد يؤثر على الاستقرار في القارة بأكملها

في ذات السياق منذ بداية أيلول / سبتمبر تشنّ الولايات المتحدة غارات جوية في المحيط الهادئ وخاصة في البحر الكاريبي تستهدف سفنا تقول إنها تهرّب المخدرات حيث أعلنت السلطات الأميركية مسؤوليتها عن 15 هجوم خلال الأسابيع الأخيرة أسفرت عن مقتل 62 شخص كما نشرت الولايات المتحدة ثماني سفن حربية في البحر الكاريبي وطائرات مقاتلة من طراز إف-35 في بورتوريكو وتوجه حاملة الطائرات الأميركية الأكبر في العالم إلى المنطقة

في النهاية يعكس هذا السلوك تردداً واضحاً في اتخاذ القرارات العليا حتى في القضايا الاستراتيجية الكبرى وهو ما يثير القلق حول قدرة ترامب على قيادة دولة تمتلك تأثيراً عالمياً هائلاً فالتناقض بين التفويض الاستخباراتي والإنكار العلني يظهر ضعفاً في التقدير السياسي ويضع الولايات المتحدة في موقف متذبذب أمام حلفائها وخصومها على حد سواء مما يثير تساؤلات جدية حول استقرار صنع القرار الرئاسي في القضايا الحرجة وهكذا يظهر أن ما حدث في فنزويلا ليس مجرد تراجع عابر بل نموذجاً لأسلوب إدارة الأزمات الذي يميل إلى التصعيد ثم الانسحاب وهو سلوك يعكس هشاشة التقدير الاستراتيجي ويجعل سياسة الولايات المتحدة في المنطقة عرضة للاختبار الدائم من قبل الدول الأخرى

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى