رحيل ديك تشيني : المجرم الصامت عقل الحروب وتاجر الدم
د . مهدي مبارك عبد الله
يا جماهير أمتنا العربية و يا أحرار العالم نزف لكم نبأ خلاص العالم من الرجل الأقذر عن وجهه المعمورة صاحب السجل الاسود دراكولا امريكا الذئب الجائع الذي تفوق على الجميع في إجرامه وإرهابه وتعطشه للقتل والدماء بسيرة قذرة مليئة بشتى أنواع الشرور والعدوانية
بداية لا شماتة في الموت وعندما نصف نحن تشيني بانه ( مجرم حرب ) فإننا لا نطلق هذه الصفة على الرجل من باب ( التجني والحقد ) عليه فهذه الصفة وسمه بها بعض الامريكيون والغربيون انفسهم قبل غيرهم فبمجرد الاعلان عن موته كتبت بعض الموقع الأمريكية عدة تقارير عنه تحت عنوان ( وداعا ديك تشيني مجرم الحرب التافه كما قالوا فيه ( لقد نجح تشيني في القيام بأشياء فظيعة طوال حياته لكنه ظل مبتذلا للغاية )
في صباح يوم الثلاثاء 4 / 11 / 2025 أعلنت عائلة نائب الرئيس الامريكي الاسبق ديك تشيني أحد دعاة ومهندسي الغزو ومرتكب ابشع جرائم الحرب والابادة الانسانية في افغانستان والعراق وفاته بعد معاناته طويلة عن عمر ناهز الـ 85 عام قضاها في جمع الشر من كل أطرافه حيث ( يحمل في رقبته دماء الابرياء المظلومين ونواح الارامل والايتام المكلومين وبكاء الاطفال وعذابات المصابين والمشردين ولن يجد مَن يذكره بخير أو يحزن على رحيله بين بعض الأمريكيين الشرفاء وسكان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ممن اصابتهم شروره وخطاياه المركب
برحيل تشيني غير المأسوف عليه وغيابه الابدي عن وجه العالم والانسانية تنتهي سيرة ومسيرة وحش بشري مفترس جسد بفكره وسلوكه وسياساته أبشع ما أنجبته الإمبراطورية البربرية الأمريكية من نزعات التسلط والغطرسة والاحتلال حيث لم يعرف يوما أي معنى للرحمة والانسانية وارتبط اسمه بالمؤامرات والحروب والدمار والقتل بدم بارد حين تعامل مع البشر كأرقام مجهولة ومع الحروب كفرص استثمارية رابخة ومع الدماء كممر لتدفق النفط والصفقات والعقود ولم يكن مجرد سياسي قاس وفض بل حالة متكاملة من الانعدام الأخلاقي والاحتراف الإجرامي جعلت منه أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا ووحشية في التاريخ الأمريكي الحديث
منذ بداياته في سبعينيات القرن الماضي كان تشيني ابن المؤسسة الأمنية والعسكرية الأمريكية حيث تدرج في مواقع القوة والسيطرة بهدوء ودقة حتى أصبح أحد مهندسي الحروب وصناع القرار الخفيين في واشنطن من خلال شغله لمناصب رسمية حساسة في وزارة الدفاع كان فيها اليد الحديدية التي تنفذ بقسوة ولا تسأل وحين عين وزيرًا للدفاع في عهد جورج بوش الأب صاغ بنفسه فلسفة الحرب الذكية التي استخدمت لتبرير التدخلات الأمريكية في الخارج ثم عاد في عهد جورج بوش الابن نائبًا للرئيس ليحكم امريكا فعليًا من وراء الستار في واحدة من أكثر الفترات ظلامًا وغوغائية في التاريخ المعاصر
كان ديك تشيني العقل المدبّر لغزو العراق وأحد أبرز من روجوا لفكرة أسلحة الدمار الشامل التي تبين لاحقًا أنها كذبة مُصطنعة حيث مارس ضغطًا شديداً على أجهزة الاستخبارات لتلفيق أدلّة تبرّر الغزو والعدوان وأشرف من خلف الستار على خطة تدمير البنية التحتية العراقية وخصخصة الثروات النفطية لصالح شركات أمريكية كـ هاليبرتون التي كان نائبها التنفيذي السابق ونتج عن قراراته استشهاد مئات الآلاف من العراقيين وتشريد الملايين وانهيار الدولة العراقية الحديثة وصعود الجماعات المتطرفة كما كان المهندس الحقيقي لمشروع المحافظين الجدد الذي أراد إعادة تشكيل الشرق الأوسط بالنار والحديد حيث كان يرى أن القوة وحدها هي اللغة التي تفهمها الشعوب وأن الهيمنة العسكرية هي الوسيلة المثلى لحماية المصالح الأمريكية وفي سبيل هذه الرؤية داس على القانون الدولي وسحق قيم ومبادئ العدالة وأطلق العنان لآلة القتل الشاملة تحت شعار كاذب ومصطنع بالحرب على الإرهاب
طوال حياته لم يكتف تشيني بإصدار الأوامر من المكاتب المغلقة بل كان يتابع أدق تفاصيل العمليات العسكرية عن قرب ويعطي توجيهاته المباشرة للقيادات الميدانية وعندما كشفت التقارير عن ممارسات التعذيب المروعة في سجن أبو غريب ومعتقل غوانتانامو لم يبدي أي ندم او اعتذار بل دافع عنها علنًا واعتبرها ضرورة أمنية حيث كانت تلك اللحظة كاشفة لحقيقته رجل في موقع المسؤولية يبرر التعذيب والقتل ويمارس السلطة بمنطق سادي وتعسفي كمن يجرّب أدواته الحادة على أجساد الآخرين دون أن يرتجف ضميره او تستفز مشاعره لحظة واحدة
لم يتوقف تأثير هذا الوحش الشرير على ميادين الحروب فحسب بل امتد إلى تحويل الدولة الأمريكية إلى مشروع ربحي تديره الشركات الكبرى فخلال فترة عمله في شركة هاليبرتون النفطية نسج شبكة مصالح واسعة ومعقدة وبعد دخوله البيت الأبيض عاد ليستثمر نفوذه السياسي لخدمة تلك المصالح ومنذ غزو العراق حصلت شركته السابقة على عقود بمليارات الدولارات تحت غطاء إعادة الإعمار في مشهد سافر من تضارب من استثمار المصالح واستشراء الفساد المقنن حيث جعل من الاحتلال الامريكي للعراق مشروعًا اقتصاديًا مربحًا ومن تدمير البلاد فرصة للثراء ومن الحرب مكاسب طويلة الأمد
أخطر ما ميز تشيني هو قدرته الفريدة على إدارة السلطة بصمت ودهاء بعيدًا عن الأضواء حيث كان أحيانًا يدير الرئيس الامريكي نفسه ويوجه مجلس الأمن القومي ويتحكم بقرارات المخابرات المركزية ويضغط على الكونغرس لتشريع القوانين التي تبرر الحروب كما خلق لنفسه شبكة نفوذ خفية جعلت منه وجه الدولة العميقة في أقسى تجلياتها التي لا تظهر في العلن كثيرا لكنها تتحكم في كل شيء
السياسة الأمريكية في عهده تحولت إلى منظومة تتغذى على الخوف والتهديد وتبرر الجرائم باسم الأمن القومي حيث كانت فكرته بسيطة ومخيفة مفادها إذا ( أردت أن تحكم العالم عليك أن تزرع في النفوس الرعب وأن تجعل الحرب حالة دائمة ) لأن الأمة والشعوب الخائفة أسهل في القيادة والسيطرة والخداع وهكذا عاش العالم عقدين من الدم والدمار ودفعت دول بأكملها ثمن تلك الفلسفة المتوحشة التي لا ترى في الإنسان إلا وقودًا لمشروع إمبراطوري لا يقنع ولا يشبع
المؤسف ان ديك تشيني نفق دون أن يواجه محاكمة واحدة رغم وضوح مسؤوليته المباشرة ع :جرائم حرب في العراق وأفغانستان وانتهاكات حقوق الإنسان في المعتقلات واستغلال السلطة لتحقيق مكاسب مالية عبر شركات النفط والمقاولات ودون أن يعتذر عن ملايين الضحايا في العراق وأفغانستان واليمن وسجون السي آي إيه السرية وانتهى كما عاش متغطرس وهو يؤكد بأن التاريخ يكتب بأيدي الأقوياء فقط لكنه رغم كل ذلك سيبقى في ذاكرة الشعوب الحرة رمزًا قذر وبشع لزمن طويل من السادية السياسية صنع فيه مكانته ومجده فوق أنقاض الأمم وجثث الضحايا بعدما أطلق موجات متواصلة من الكراهية والبغضاء والدمار ما تزال آثارها المشينة تتردد حتى اليوم
تحت إشرافه كنائب للرئيس تبنّت إدارة بوش سياسات التعذيب المنهجي في معتقلات غوانتانامو وأبو غريب وسجون سرّية في دول عربية وقد أقرّ شخصيًا بأن هذه الأساليب ضرورية لحماية أمريكا رغم مخالفتها الصريحة للقانون الدولي حيث شملت الانتهاكات الإيهام بالغرق والحرمان من النوم والتعري القسري والضرب والإذلال الديني وان أغلب ضحايا هذه الممارسات كانوا مسلمين من الشرق الأوسط وجنوب آسيا وقد قاد مع بوش إعلان ما سمي بـ الحرب على الإرهاب التي استُخدمت لتبرير غزو أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر حيث تحوّلت الحرب إلى حرب شاملة على المجتمعات الإسلامية بحجة ملاحقة القاعدة
لا نغالي ابدا اذا قلنا ان تشيني كان مدرسة في انعدام قيم الإنسانية وتبرير الجريمة كنموذجً لما تفعله السلطة حين تفرغ من الأخلاق وبموته لا يغلق فصل من التاريخ الأمريكي الاسود فحسب بل تستعاد الأسئلة التي حاول العالم نسيانها من يحاسب الجناة الذين أشعلوا الحروب ودمروا البلدان والاهم من يعيد للضحايا حقوقهم حين يرحل المجرمون دون عقاب
حتى بعد نفوقه ترك تشيني إرث فكري وسياسي وعقيدة كاملة في الحكم لن يندثر بل ستنتقل إلى عمق اليمين الأمريكي الجديد الذي يرفع اليوم شعارات القوة والتفوق والهيمنة والتي تقوم على نظرية الهجوم المسبق والفكرة الميكافلية الغاية تبرر الوسيلة مهما كانت وحشيتها لتبقى تيارات التطرف السياسي تتغذى على خطاب الكراهية والعداء في الداخل الأمريكي وتبرر العدوان في الخارج وهم في الواقع أبناء شرعيون لمدرسة تشيني الفكرية التي تختزل العالم في معادلة القوة والغلبة وتلغى الإنسانية من معجم وقاموس السياسة
ما زرعه تشيني من فكر متغطرس وعدواني يجد اليوم تربة خصبة لإعادة إنتاجه في مواجهة الداخل والخارج والسير على خطاه في التعامل مع الخصوم بمنطق الشيطنة والإلغاء وهؤلاء الذين يتحدثون باسم الوطنية الأمريكية الجديدة يشربون من فكر تشيني ويتشربون سلوكه في تقديس العنف وتبرير الحروب وهم على استعداد ليكملوا نهجه الإرهابي والإجرامي غير آبهين بما يخلفه من خراب إنساني وأخلاقي بعدما أصبح فكر تشيني ليس مجرد فصل في التاريخ بل فيروسًا سياسيًا يهدد الضمير الإنساني كلما غابت العدالة أو ضعفت المساءلة في عالم ملوث بالخوف وسياسة بلا قلب ودولة تظن أن قوتها تبرر كل شيء وإن لم يتعلم العالم من تجربته الدموية الفاسدة فسيظل خطر تكرارها قائمًا يتربص بالأجيال القادمة باسم الأمن والمصلحة والزعامة
ختاما : لقد ترك ديك تشيني إرثًا من الدم والكراهية والتفكك في العالم العربي والإسلامي حتى صار اسمه مرادفًا لبرمجة الحروب الحديثة وسياسة الشرّ الوقائي وقد قُبِرَ جسده لكنّ آثار قراراته ما زالت تنزف وجعا في مدن العرب وقلوبهم
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]


