جثة الأسير هدار غولدن كانت تحت أقدامهم وما أبصرتها عيونهم !!!

مهدي مبارك عبد الله

قال الله تعالى في كتابه الكريم ” لهم أعين ولكنهم لا يبصرون بها ” فهناك من يرى بعينيه لكنه عاجز عن رؤية الحقائق ويختار العمى الطوعي على إدراك الواقع بكل فظاعته تماما هذا ما حصل مع جثة الأسير هدار غولدن التي كانت تحت أقدامهم وما أبصرتها عيونهم حيث بقيت شاهدة صامتة على القسوة والانتهاك والدم البارد والجبن الأخلاقي الذي يغطي قلوب من أغلقوا أعينهم عن الحقائق ويصمتون عن الجرائم التي ترتكب أمامهم لتظل الحقيقة كالصاعقة في وجه كل من اختار طريق القتل والدمار والاجرام وغياب الضمير والإنسانية في نفوس من أغلقوا أعينهم عن الحقيقة وغضوا الطرف عن الجرائم التي ترتكب أمامهم

ملف جثة هدار غولدن ليس مجرد خبر عن الوصول الى رفات استُخرِجت بل هو مرآة عاكسة لقدرة فصيل مسلح على المناورة داخل بيئة معادية شديدة المراقبة هذا الحدث يفرض قراءة مزدوجة في آن واحد قراءة تقنية عن حدود قدرة التجسس والاستخبارات وقراءة استراتيجية عن سلوك حركة المقاومة في إدارة ملفات الأسرى والرفات عبر زمن طويل

حركة المقاومة الإسلامية حماس برهنت قدرتها الفائقة في التغلب على التكنولوجيا الصهيونية المتقدمة حين احتفظت برفات ضابط إسرائيلي لمدة 11 عاما دون أن يكتشف الكيان مكانه ومصيره حتى سلمته ضمن صفقة طوفان الأقصى وهذا يوضح أن ملف غولدن لم يكن مجرد غائب مجهول بل امتحان مفتوح لعقلية الأمن الإسرائيلي

الوقائع التي أُعلن عنها تكشف أن الجثة ظلت مطمورة داخل نفق أو موقع تحت الأرض لسنوات طويلة ومرة أخرى ظهرت للعلن في سياق صفقة تبادل هذه الوقائع تطرح أسئلة عن كيف يمكن لقوة محلية أن تحافظ على شيء حساس تحت أقدام قوات تمتلك أقمارا صناعية وطائرات استشعار وجيوسيستم استخباريا متطور الإجابة لا تكمن في معجزة تقنية بقدر ما تكمن في تراكم من شروط ميدانية بشرية وجغرافية وتنظيمية توفر لأطراف المقاومة هامشا من التعامل يصعب على فرق التفتيش الخارجية رصده

أول هذه العوامل هو الطبيعة المعقدة لشبكات الأنفاق والبنية التحتية تحت الأرض الأنفاق ليست مجرد ممرات حفرت بغرض القتال بل هي منظومات تشمل حجرات جانبية ومستودعات ومداخل مبطنة بالركام والخرسانة خلال سنوات من السيطرة الميدانية الجزئية في مناطق بعينها تصبح هذه الشبكات جزءا من الذاكرة المحلية لصانعيها وهذا يضعف فعالية البحث الخارجي حتى لو استُخدمت فيها معدات ثقيلة

ثاني عامل هو عامل الأرض والبيئة والتشويش الصوتي والحراري والطبيعي الأنقاض والرمال والخرسانة التي تحول أي عملية تفتيش إلى مهمة معقدة بطبيعتها أنظمة الاستشعار ليست مطلقة الفاعلية في كل الظروف وقراءة بيانات الأقمار الصناعية أو الطائرات دونتيجابية يمكنها أن تولد مؤشرات مضللة أو ناقصة عندما تكون العناصر المحجوزة مغطاة ومخفية بذكاء ميداني

ثالث عامل هو العنصر البشري والانضباط التنظيمي في حركة منظمة تمتلك آليات عمل سرية متأصلة وخصائص حكم محلي صارمة يمكن أن تحتفظ بمعلومات حساسة ضمن طبقات محددة من اليد العاملة ولا تخرجها إلا لآليات قرار محددة السرية وان الالتزام حتى مع أفراد عامين أو أكثر يقللان من احتمالات تسريب موقع أو معلومات مفصلية تمكن خصمها من استرجاع الرفات بسهولة

رابع عامل هو الحساب السياسي والتفاوضي وان الاحتفاظ برفات أو أسرى هو أداة ضغط تكتيكية واستراتيجية القرار والاحتفاظ أو الإفراج أو التسليم يتوازن بين أهداف ميدانية وسياسية ودبلوماسية وهذا جعل عملية الاكتشاف أو الإعلان عن وجود رفات مسألة لا تبت في الواقع الميداني وحده بل ترتبط بآليات تفاوض ووساطة وأجندات إقليمية ودولية

فيما يخص فرضية طرق حفظ الجثث لهذه الفترة الطويلة فلا دلائل علنية موثوقة تقود إلى استنتاجات دقيقة حول أساليب محددة للحفظ طويلة الأمد والسيناريوهات الممكنة من المستوى العام تشمل وضع الرفات داخل تجاويف محمية من الرطوبة والتعرض المباشر للحياة أو إبقاءها ضمن مخابئ داخل الحجر أو الركام أو حتى قرب مصادر برودة طبيعية أو مبان مهجورة لكن تقديم وصف تفصيلي لإجراءات عملية حفظ الرفات هو أمر لا يخدم النقاش العام وقد يقترب من تقديم معطيات إجرائية ممنوعة من الناحية الأخلاقية والأمنية

أداء المقاومة في ملف البحث عن الرفات والأسرى على الرغم من محدودية المعدات الظاهرية اثبت قدرتها على العمل في بيئة معروفة ومتكاملة وتراكم خبرات لوجستية ميدانية وهذا الأداء يتكامل مع إشارات التزام بآليات الاتفاقات وإشراك وسطاء دوليين لمنح العملية نوعا من الشرعية والموثوقية في الوقت الذي استخدمت فيه المقاومة هذا الملف لقياس ردود الفعل السياسية والداخلية لدى الطرف المقابل

الدرس الاستخباري في هذا الشأن واضح ومزدوج حيث لا تساوي القوة التكنولوجية تلقائيا اليقين المعرفي في بيئات معقدة تحت الأرض والأنقاض وان الإرادة والتنظيم المحليان قادران على تعويض نقص المعدات عبر معرفة مكانية وتحكم مجتمعي وامتثال قراراتي من قبل أفراد محدودين العدد وهذا وضع علامات استفهام كبيرة حول افتراض التفوق التكنولوجي المطلق كبديل عن فهم عمق الأرض والناس والبيئة

من زاوية الالتزامات والوعود فإن ما رُوّج عنه من وعود إسرائيلية بالسماح بخروج مقاتلين أو فتح ممرات آمنة لم يترجم دوما إلى نتائج عملية وهذا الخلاف بين القول والفعل يغذي فوضى الثقة ويمنح المقاومة ذريعة للمماطلة أو الشك في الترتيبات كما أنه يخلق بيئة لاختبار الصبر الدولي ودور الوسطاء الذين عليهم مسؤولية التحقق من تطبيق بنود أي اتفاق وإلا فإن انقطاع الالتزام سيؤدي حتما إلى تصعيد ميداني غير متوقع

إضافة الى ان المهمة عكست قدرة حماس على تنظيم إدارة عملية الأسرى والرفات بشكل علمي وبساطة وشعبية في الوقت ذاته كشفت عن مهارة في التكيف مع الواقع الميداني حيث استخدمت خبراتها اللوجستية ومعرفتها الجغرافية والميدانية في الحفاظ على الأسرى والرفات دون الحاجة لتقنيات عالية التكلفة بل والاستفادة من البيئة الطبيعية والأنفاق والمخابئ المدروسة بعناية كما أن الالتزام بالمدد الزمنية للاتفاقات اظهر ايضا القدرة على الدمج بين الأخلاقيات العسكرية والسياسة التكتيكية وهو ما ميز تجربة المقاومة في إدارة ملف الأسرى مقابل غطرسة الاحتلال وخرقه للعهود

ابعاد المواجهة النفسية والإعلامية بين المقاومة والإسرائيليين تجلىت بوضوح في إدارة ملف هدار غولدن فالتحكم الدقيق في توقيت الإعلان عن تسليم الرفات والتعامل مع المعلومات خلق ضغطا نفسيا واستراتيجيا على القيادة الإسرائيلية واظهر قدرة المقاومة على إدارة الانطباعات الإعلامية واستغلالها لتعزيز موقفها السياسي والعسكري دون أي حاجة إلى مواجهة مباشرة في الميدان

خاتمة اسرائيل تلملم خيبات المشهد السياسي والمعنوي في قضية هدار غولدن خلال لحظة محورية حيث أكسبت المقاومة ورقة ذات ثقل سياسي والنفسي في مفاوضات لم تنته بعد الحدث وقد كشف عن فجوات في المنطق الاستخباري التقليدي وأعاد التأكيد أن الصراع ليس مجرد تنافس على الأجهزة بل صراع على الفكرة والذاكرة والقدرة على التحمل في مقابل ذلك فإن كل تسوية مستقبلية لا بد أن تتعامل مع هذا الواقع المعقد بعقلانية وسياسة صلبة تراعي أبعاد الأمن والإنسانية والعدالة وإلا فإن أي نقض في الوفاء بالالتزامات سيعيد كتابة قواعد اللعبة على الأرض

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى