استبعاد الأونروا من مستقبل غزة شطب لحق اللاجئين وطمس للذاكرة الفلسطينية !

د . مهدي مبارك عبد الله

منذ نشأتها قبل أكثر من سبعين عامًا كانت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا تمثل المتنفس الإنساني الوحيد لملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين شردهم الاحتلال من ديارهم وقدمت لهم التعليم والعلاج والغذاء والمأوى في ظروف بالغة القسوة ومع أن المنظمة أممية الطابع إلا أن إسرائيل لم تكف عن استهدافها بالاتهامات والتضييق والقتل لتقويض دورها وتقليص حضورها الميداني في المخيمات الفلسطينية في الداخلوالشتات

لم تغفر إسرائيل للأونروا أنها بقيت شاهدة حية على جريمة النكبة وعلى مأساة اللجوء الفلسطيني وأنها حافظت على هوية اللاجئين القانونية والسياسية في وجه مشاريع التصفية والتهجير ولهذا اعتبرتها اساس من المشكلة لا جزءا من الحل حيث بدأت منذ سنوات طويلة حربا مفتوحة ضدها تمثلت في اغتيال عدد من موظفيها واعتقال أطبائها وملاحقة العاملين فيها بتهم واهية تتعلق بدعم المقاومة أو التعاون مع الفصائل الفلسطينية المختلفة

بنيامين نتنياهو اتهم الأونروا مرارًا بأنها غطاء لحركة حماس وبأن مدارسها ومراكزها الطبية تتحول إلى بؤر تحريض ومراكز مخفية لتخزين السلاح وهو اتهام يتكرر في كل عدوان على غزة رغم أن الأمم المتحدة نفسها أكدت حياد الأونروا واستقلاليتها وأنها لا تمارس أي نشاط سياسي ومع ذلك استغلت إسرائيل هذه الادعاءات للضغط على المانحين الدوليين ودفعهم إلى تقليص تمويلها لوقف عملها

إسرائيل وجدت في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حليفًا استراتيجيا في هذا المسعى حيث قرر ترامب عام 2018 وقف تمويل الأونروا بالكامل واعتبرها منظمة فاشلة ومتحيزة ضد إسرائيل ثم ضغط لاحقا من أجل إنهاء عملها داخل الأراضي الفلسطينية بذريعة الإصلاح الإداري وكان الهدف الحقيقي إلغاء حق العودة من خلال إضعاف المؤسسة التي ترعاه قانونيا وإنسانيا بشكل منظم

رغم كل التقارير الدولية التي أثبتت نزاهة الأونروا وكفاءتها فقد تواصلت محاولات تشويهها حتى جاءت عملية طوفان الأقصى عام 2023 لتمنح الاحتلال وواشنطن ذريعة جديدة لإعادة طرح فكرة استبعادها من مستقبل غزة وتقديم بدائل إنسانية موالية للغرب كما حدث في مؤسسة غزة الإنسانية التي اتُهمت بإدارة مواقع إغاثة فاسدة وبتورط عناصرها في الاعتداء على الفلسطينيين والتعامل الاستخبارات مع الاحتلال

تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الأخيرة جاءت لتؤكد هذا التوجه العدائي إذ أعلن صراحة أن الأونروا لن يكون لها أي دور في مستقبل غزة مكررًا الاتهامات الإسرائيلية بأنها تابعة لحماس في تجاهل فاضح لقرار محكمة العدل الدولية الذي أكد أن لا أساس قانونيا لتلك المزاعم وأن الأونروا تبقى محايدة ولا غنى عنها في تقديم الإغاثة للفلسطينيين في عدة جوانب

إن استبعاد الأونروا من مستقبل غزة ليس مجرد إجراء إداري أو فني بل هو حلقة متصلة في مشروع سياسي كبير يهدف إلى شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين وإلغاء الذاكرة القانونية للنكبة فوجود الأونروا يعني استمرار الاعتراف بحق العودة وغيابها يعني إسقاط هذا الحق من الوعي الدولي ومن ملفات الأمم المتحدة ومنابر العالم

لقد عجزت واشنطن وتل أبيب في إخضاع الأونروا بالكامل لأنها بقيت تعمل رغم الحصار والتهديدات ورغم فقدان التمويل في أغلب فتراتها ومع ذلك ظلت مدارسها مفتوحة وعياداتها تعمل في قلب الدمار لتقدم الدواء والغذاء والتعليم لأكثر من مليون ونصف لاجئ في غزة والضفة والشتات وهي لذلك تدفع اليوم ثمن ثباتها على الحياد ورفضها الانصياع للرواية الإسرائيلية

الدفاع عن الأونروا هو دفاع عن حق الفلسطيني في الحياة وعن ذاكرة قضيته التي يحاول الاحتلال طمسها بكل السبل فاستبعاد هذه الوكالة من مستقبل غزة يعني تسليم إدارة القطاع لجهات مطواعة سياسيا ومشلولة أخلاقيا تعمل وفق أجندة الاحتلال وتحت إشرافه المباشر وهو ما يشكل خطرا وجوديا على مستقبل اللاجئين الفلسطينيين عامة وعلى هوية غزة الوطنية بالحديد

ختاما : العالم اليوم يقف أمام اختبار أخلاقي وإنساني صارخ فإما أن ينحاز إلى الضمير الإنساني ويصون حق اللاجئين في المأوى والتعليم والعلاج أو ان يشارك بصمته في جريمة سياسية موصوفة ومكتملة الأركان ضد شعب أعزل ما زال يصر على الحياة رغم كل المآسي وإن صمود الأونروا هو صمود للقيم الأممية ذاتها وهو شاهد على أن العدالة مهما غابت ستعود وأن الذاكرة الفلسطينية لا يمكن محوها بقرارات سياسية أو ضغوط مالية لأنها وسم ابدي محفور في وجدان شعب لا يزال يقاتل من أجل حقه في الوجود والكرامة والتحرر واقامة دولته على ترابه الوطني المستقل وعاصمتها القدس الشريف

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى