الاجتماعيات في المدارس الأردنية… مادة تتطور علميا، وحاجة لبناء قدرات معلميها

كتب أ.د. محمد الفرجات

تشهد المناهج المدرسية في الأردن، خلال السنوات الأخيرة، تحديثًا ملحوظًا، وخصوصًا في مادة الاجتماعيات التي تمتد من الصف الأول وحتى العاشر، وتتوزع بعدها إلى التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية لطلبة المرحلة الثانوية. وقد جاء هذا التحديث استجابة لتحولات عالمية واسعة، فرضت على التعليم أن يدمج قضايا الاستدامة، والتغير المناخي، والموارد الطبيعية، والطاقة، وإدارة المياه، والخرائط، ونظم المعلومات الجغرافية GIS في مناهجه، ليخرج طلبة قادرين على فهم تحديات الحاضر واستشراف المستقبل.

غير أن هذا الطموح التربوي المتقدم يصطدم بمفارقة كبيرة؛ مفارقة تكاد تُجهض قيمة التطوير كله. فبينما تُضاف محتويات علمية حديثة تتعلق بالبيئة وعلوم الأرض والمناخ إلى كتب الاجتماعيات، يظل المدرّس الذي يشرح هذه الموضوعات خريج تاريخ في الغالب، لم يتلقَّ تدريبًا فعليًا في الجغرافيا العلمية ولا في المفاهيم البيئية والمناخية المستجدة. وهنا تكمن المشكلة المركزية.

مادة واحدة… أربعة عوالم مختلفة:

تبدأ مادة الاجتماعيات في الصفوف الأساسية كحقيبة واحدة تضم:

التاريخ

الجغرافيا

التربية الوطنية والمدنية

مفاهيم البيئة والموارد والطبيعة

وتستمر المادة بالتطور في الصفوف الأعلى لتصبح أكثر ثراءً، فتتناول:
خرائط المناخ والهطول والرياح

إدارة المياه والطاقة

التصحر

التغير المناخي

التنوع الحيوي

الكوارث الطبيعية

الاقتصاد الأخضر

والبصمة الكربونية

وهي موضوعات ذات طبيعة علمية دقيقة، تحتاج إلى فهم لحركة الغلاف الجوي، وعلوم الأرض، والهيدرولوجيا، وتحليل البيانات، وقراءة الخرائط، وأنظمة GIS.

غير أن معظم من يدرّس هذه المحتويات هم معلمون مؤهلون لتدريس التاريخ، بينما أصبح الكتاب يحتوي على قدر كبير من “العلوم البيئية والجغرافية” التي تتجاوز اختصاصهم الأكاديمي.

النتيجة: فجوة بين المحتوى والتنفيذ، وهذه الفجوة تسبب مجموعة من الآثار السلبية:

1. تحوّل المعرفة العلمية إلى نصّ للحفظ
فيُدرّس التغير المناخي على أنه تعريف من أربع أسطر، بدل أن يكون نموذجًا لتحليل البيانات وفهم الظواهر.

2. ضعف مهارات التحليل لدى الطلبة
فالمدرّس غير المدرب على الخرائط أو البيانات المناخية يعجز عن إعطاء الطلبة تجربة تعليمية حقيقية.

3. عدم تحقيق أهداف تحديث المناهج
فالكتاب حديث، لكن آلية التدريس ما تزال تقليدية، فيتخرج الطالب بوعي منقوص حول قضايا وطنه والعالم.

4. ظلم للمعلم نفسه
لأن الوزارات تطلب منه أن يكون متخصصًا في التاريخ والجغرافيا والبيئة والموارد… في آن واحد!

لماذا حدث هذا الخلل؟
1. دمج غير منطقي بين التاريخ والجغرافيا العلمية
في حين أن التاريخ علم إنساني، تعتمد الجغرافيا الحديثة على تقنيات وأدوات تحليل علمية.

2. تحديث المناهج دون تحديث مهارات معلميها
كان من المفترض أن يرافق إضافة مفاهيم المناخ والبيئة دورات مكثفة في:
نظم المعلومات الجغرافية
GIS

قراءة الخرائط

الاستدامة

المخاطر الطبيعية

تحليل البيانات

لكن ذلك لم يحدث على نطاق واسع.

3. ندرة خريجي الجغرافيا العلمية في الميدان
لأن تخصصات التوظيف في الوزارة ما تزال تعتمد أكثر على خريجي التاريخ.

الطلاب… الضحية الأكبر

في زمن يتغير فيه العالم من حولنا بسرعة، يصبح فهم المناخ، والموارد، والطاقة، والمخاطر الطبيعية جزءًا من بقاء الدول، وليس مجرد مادة في كتاب. لكن الطلبة في كثير من مدارسنا يتلقون هذه الموضوعات كحقائق جاهزة بلا تفسير، وبلا أدوات، وبلا تجربة علمية. وهكذا نخلق فجوة بين جيل يعيش تحديات العصر، وتعليم لا يواكب تلك التحديات.

الحل ليس صعبًا… لكنه يحتاج إرادة

1. تأهيل معلمي التاريخ بدورات جغرافية وبيئية علمية
برامج إلزامية، شبيهة بإعادة التأهيل المهني، تعطي المعلم قدرة على فهم وتدريس المحتوى الجديد.

2. توظيف خريجي الجغرافيا والبيئة في تدريس الاجتماعيات
تعديل معايير التعيين، بحيث تُخصص حصص الجغرافيا والبيئة لمن يملك القدرة العلمية.

3. فصل الاجتماعي عن البيئي في الصفوف العليا
إعادة توزيع المحتوى، بحيث يذهب الجزء العلمي إلى معلمي الجغرافيا، والاجتماعي إلى معلمي التاريخ.

4. شراكات مع الجامعات ومراكز الأبحاث
لتقديم تدريب حقيقي حول التغير المناخي، والموارد المائية، والطاقة، والمخاطر الطبيعية.

وبالمحصلة، فتطوير المناهج خطوة رائعة، لكن قيمة المناهج لا تتحقق بالكلام المكتوب، بل بمن يشرح ويطبق ويترجم المعرفة إلى فهم. ومن غير المنطقي أن نطلب من معلم التاريخ أن يشرح خرائط الرياح وتدفق الهواء، أو يفسر الاحتباس الحراري، أو يفهم ديناميكية الكتل الهوائية، بينما لم يدرس ذلك في حياته الأكاديمية.

إن الحفاظ على جودة التعليم لا يكون بتحديث الكتب فقط، بل بتحديث المعلم الذي يشكل جسراً بين الطالب والمحتوى. وإلا سنجد أنفسنا أمام كتب متطورة تُدرّس بعقلية الماضي، فيضيع الهدف، ويضيع الجهد، ويضيع المستقبل…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى