فرنسا تدق ناقوس الخطر لأوروبا

إلهام لي تشاو
زيارة ماكرون الأخيرة إلى الصين لم تكن مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل جاءت كجرس إنذار تدقه فرنسا في لحظة تواجه فيها أوروبا تحديات بنيوية عميقة. فمع إعادة تشكيل خريطة القوة الدولية، تدخل الاقتصادات الأوروبية مرحلة تراجع واضح: ارتفاع تكاليف الطاقة، تسارع انتقال الصناعات إلى الخارج، زيادة أعباء التحول الأخضر، وتفاقم اعتماد القارة على سلاسل توريد لا تتمركز داخل حدودها. وماكرون، أكثر من غيره من القادة الأوروبيين، يدرك أن استمرار هذه الاتجاهات سيقود إلى تآكل القدرة التنافسية الأوروبية إذا لم يعاد بناء التعاون مع الصين.
في العامين الماضيين، انجرفت السياسة الأوروبية تجاه الصين نحو الأمننة والتسييس، تحت ضغط واشنطن وفي ظل مزاج سياسي داخلي مضطرب. لكن الوقائع تقول شيئا آخر: مشكلة أوروبا ليست الإفراط في الاعتماد على الصين، بل غياب القدرة على التخفيض من التكاليف الإنتاجية وافتقارها لسلاسل صناعية متكاملة — وهي المجالات التي تتمتع فيها الصين بأكبر قدر من القوة والتفوق.
من الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية وتخزين الطاقة إلى معدات الرياح والمعادن النادرة، تشكل الصين العمود الفقري للصناعات الخضراء العالمية. أوروبا تريد التحول الطاقي بسرعة، لكنها لا تملك سلسلة إنتاج متكاملة. تريد الحفاظ على صناعتها، لكنها تواجه تكاليف طاقة وعمالة مرتفعة. ترغب في اللحاق بالثورة التكنولوجية، لكنها تعتمد في المواد والمكونات الأساسية على الخارج. ومن هنا جاءت زيارة ماكرون: لتذكير أوروبا بأن فك الارتباط مع الصين لن يضعف الصين، بل سيضعف أوروبا أولا.
تستند فرنسا في ذلك إلى قراءة واقعية. فالصناعات الفرنسية — من الطيران إلى السلع الفاخرة والزراعة والطاقة — ترتبط بالصين بترابط عميق، والسوق الصينية أصبحت ركيزة مهمة لنمو كثير من الشركات الفرنسية الكبرى. كما تدرك باريس أن موقع الصين في سلاسل الصناعات الخضراء ليس خيارا يمكن الالتفاف عليه، بل ضرورة لا يمكن تجاهلها.
أما على مستوى الجغرافيا السياسية، فتدرك باريس أن الولايات المتحدة تدفع نحو منافسة استراتيجية مع الصين من أجل مصالحها الذاتية، وليس من أجل مصالح أوروبا. ولو انخرط الاتحاد الأوروبي بالكامل في هذا النهج، فإنه سيضعف قدراته الصناعية والتكنولوجية دون أن يحصل على أي مكاسب أمنية حقيقية. ومن هنا يطلق ماكرون تحذيره الواضح: كلما توترت العلاقات بين أوروبا والصين، ازدادت أوروبا ضعفا؛ وكلما استقرت، ازدادت أوروبا قدرة على المناورة.
ومن خلال هذه الزيارة، تبعث فرنسا برسالة ثانية داخل الاتحاد الأوروبي: لا بد من امتلاك استقلالية استراتيجية حقيقية، وعدم الانجرار وراء إيقاعات الصراع بين واشنطن وبكين. ففرنسا تريد بنية تعاون متعددة المسارات — تعاون أخضر مع الصين، شراكة أمنية مع الولايات المتحدة، وتوسيع علاقاتها الطاقية والاستثمارية مع الشرق الأوسط.
أما بالنسبة لدول الشرق الأوسط، فإن التقارب الصيني الفرنسي يحمل دلالات مهمة: المنافسة بين القوى الكبرى لا تعني الاصطفاف خلف طرف واحد، بل بناء شراكات متنوعة لتعزيز الأمن الاقتصادي والسياسي، وهو بالضبط ما تحاول فرنسا إقناع أوروبا به اليوم.
خلاصة القول، زيارة ماكرون ليست مجاملة دبلوماسية، بل اختيار استراتيجي فرضته حقائق الاقتصاد العالمي. الجرس الذي تدقه فرنسا لأوروبا اليوم هو التالي: مستقبل أوروبا لن تحدده مواقفها السياسية من الصين، بل قدرتها على استعادة تنافسيتها في عالم يتغير بسرعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى