حينُ يطرقُ الأردنُّ بابَ الأسطورة… بين ميسي والتاريخ
د. عمّار الرجوب
لسنا اليوم أمام خبر رياضي عابر، بل أمام لحظة وعي كاملة.
أن يُقال: الأردن في كأس العالم، وأن يُقال بعدها: في مجموعة تضم الأرجنتين، فهذا لا يعني أننا دخلنا بطولة فقط، بل يعني أننا دخلنا دفتر الذاكرة العالمية من أوسع أبوابه صعوبة. هنا لا تعود الكرة جلدًا منفوخًا يركل، بل تصبح فكرة، وتتحول المباراة إلى مرآة كبرى ترى فيها الشعوب صورتها كما هي، بلا مساحيق.
هناك لحظات لا تغيّر ترتيب الفرق، لكنها تغيّر ترتيب النفوس. لحظات يدخل فيها الشعب كله في مباراة واحدة مع ذاته، فيكتشف أن الخسارة لم تكن يومًا في عدد الأهداف، بل في عدد المرات التي صدّق فيها أن سقفه منخفض. الأردن في هذه اللحظة لا يلعب أمام الأرجنتين فقط، بل يلعب أمام ذاكرته الطويلة من “كنا قريبين”. وهذا القرب اليوم لم يعد وهمًا، بل صار ملمسًا حقيقيًا للأصابع. الوطن الذي يراهن على شبابه في الملعب، هو وطن يعلن – بصمت عميق – أنه يراهن على المستقبل لا على التبرير.
ليست كرة القدم لعبة أقدام بقدر ما هي صراع مع الصورة التي رسمناها لأنفسنا عبر السنين. حين يدخل الأردن هذا المشهد، فهو لا ينازع خصمًا، بل يواجه ذاكرته، ويعيد ترتيب مفاهيمه عن الإمكان والسقف والحدّ. بعض الأوطان تحتاج حربًا كي تكتشف قوتها، وبعضها لا يحتاج سوى مباراة ليكتشف أنه كان أقوى مما ظنّ طويلًا.
نفسيًا، نحن أمام شفاء جماعي من عقدة المقارنة. لم نعد نقول: “هم كبار ونحن صغار”، بل بتنا نقول: “لكلٍ حجمه حين يقف بثقته”. هنا تمامًا يولد الإنسان الجديد، المواطن الذي لا يفرح لأنه تفوّق على غيره، بل لأنه تجاوز صورته القديمة عن نفسه. هذه اللحظة لا تعلّمنا كيف نركل الكرة فقط، بل كيف نركل الخوف، وكيف ندرّب قلوبنا على الوقوف طويلًا دون أن تنحني عند أول اسم كبير.
سياسيًا، هذا الحضور إعلان رمزي بأن الدولة الصغيرة جغرافيًا تستطيع أن تكون كبيرة في المعنى. ليست هذه مواجهة مع منتخب، بل مواجهة مع صورة نمطية ترسّخت طويلًا عن المواقع والأحجام والهوامش والمراكز. اقتصاديًا، هذا الحدث يحرك الشارع كما لا تحركه قرارات كبرى، ويعيد للثقة دورتها في المقاهي، في البيوت، في لغة الناس اليومية. أما إعلاميًا، فهذه لحظة يتحول فيها الصوت المحلي إلى خبر عالمي، ويتحوّل فيها الاسم من نشرة رياضية إلى سؤال سياسي رمزي.
فلسفيًا، في عمق هذا المشهد يتكرّر السؤال الأزلي:
هل المجد محطة نصلها، أم حالة نمارسها؟
والأردن – في هذه اللحظة – لا يمارس المجد بوصفه نتيجة، بل بوصفه سلوكًا: هدوء في الاستعداد، ثقة بلا صخب، شغف بلا غرور. وهنا تكمن الخطورة الجميلة… أن تدخل التاريخ دون ضجيج، وأن تصنع المعنى دون أن ترفعه على اللافتات.
رياضيًا، لا أحد يطلب من الأردن أن يهزم الأرجنتين، يكفي أن يقف أمامها دون ارتباك. فبعض الوقفات أبلغ من الانتصارات، وبعض الصمود أفصح من الأهداف. في كرة القدم كما في الحياة: ليست كل المعارك لتُربَح، بعضها لتُفهَم. ولسنا ذاهبين إلى كأس العالم لنبحث عن فوزٍ فقط، نحن ذاهبون لنثبت أن الأردن خرج من هامش الاحتمال إلى قلب السؤال الكبير.
وأقول أنا:
نحن لا نطلب من القدم أن تصنع لنا مجدًا،
نحن نريد من الوعي أن يعترف أننا صرنا أهلًا للمحاولة،
وأن الأردن لم يعد يقف خارج السياق،
بل صار يطلّ على العالم من نافذة الاحتمال العالي.
جماهيريًا، نحن لا ننتظر صافرة البداية، بل نعيشها منذ الآن في الشوارع والبيوت واللهجة والفرح المكبوت. هذه لحظة تتقاطع فيها القلوب على إيقاع واحد، لا تهتف بلا وعي، بل تؤمن بهدوء. نحن لا نصفق لأننا أفضل من غيرنا، بل لأننا صرنا أفضل مما كنا.
وسياسيًا وإعلاميًا، هذه لحظة انتقال من عقلية “المشاركة” إلى عقلية “الندية”، ومن حضور الصدفة إلى حضور الاستحقاق. لحظة تقول للعالم: هنا وطن يعرف حدوده، لكنه لا يقيّد طموحه بها.
سواء اكتمل الحلم أو وقف على حافة الممكن، يكفي أننا وصلنا إلى النقطة التي لم يعد فيها السؤال: هل سنصل؟
بل صار: كيف سنُروى حين نصل؟
الأردن اليوم لا يفاوض على هدفٍ في مرمى، بل يفاوض على تعريف جديد لذاته…
تعريف يُكتب بالموقف، لا بالنتائج.
ومن شعري:
نحنُ المجدُ حين يُستدعى ويُنتخبُ
وحين نخوضُ المستحيلَ فلا نَهِبُ
وإن شاطرَتنا الأساطيرُ ملعبَنا
ففي أعينِ الأردنيينَ لها رهَبُ




