حين يقف المعنى عارياً أمام الحقيقة
د. عمّار محمد الرجوب
ليس أخطر على العالم من فكرةٍ تولد صادقة في زمنٍ مرتبك، ثم تُترك وحيدة في ضمير إنسانٍ شجاع. الأفكار لا تغيّر التاريخ حين تُكتب، بل حين تؤمن بنفسها وتخرج إلى الضوء بلا خوف ولا إذن. نحن لا نعيش أزمة زمن ولا نقص أفكار، بل فراغًا في المعنى؛ فراغًا جعل الإنسان يعرف كل شيء ويفقد الإحساس بكل شيء، يحفظ القوانين وينسى أبسط قاعدة: أن يكون إنسانًا.
في هذا الفراغ يتحول الصمت إلى موقف، والحياد إلى قناع أنيق للخوف، وتغدو السياسة إدارة بارعة للقلق لا خدمة للإنسان. تُمنح الأخطاء شرعية، ويُسوّق التنازل على أنه حكمة، وتُقاس القوة بالصوت لا بالموقف. في هذا العالم لا يُقاس البشر بما يملكون، بل بما يتحملون دون أن ينكسروا، ولا تُعرف الشجاعة بكثرة الأتباع، بل بالقدرة على الوقوف وحيدًا حين يختار الجميع الطريق الأسهل.
تعلمتُ أن الهزيمة ليست أن تسقط، بل أن تتصالح مع السقوط وتبني عليه وعيًا جديدًا. وأن الانتصار ليس لحظة تصفيق، بل رحلة طويلة من الصبر، والنقد الذاتي، وإعادة تعريف النفس كل مرة. العالم لا يحترم من ينجو فقط، بل من ينجو دون أن يفقد أخلاقه، ولا يبيع مواقفه، ولا يساوم على روحه.
أما الإنسان، ففي داخله دولة كاملة؛ دستورها القيم، ومعارضتها الأسئلة، وحكومتها قراراته اليومية. كل هزيمة نفسية غير مواجهة تتحول لاحقًا إلى سلوك عام، وكل خوف فردي مؤجل يعيد تشكيل ملامح الوطن دون أن نشعر. لذلك لا يُبنى الإصلاح بالخطب، بل بأفراد يختارون الوعي على السلامة، والمعنى على الضجيج، ويدركون أن الأمم لا تسقط حين تُهزم، بل حين تفقد قدرتها على التمييز بين الحق والمصلحة.
في لحظة ما، يكتشف الإنسان أن أخطر أنواع القمع ليس ما يُفرض عليه من الخارج، بل ما يتسلل إلى داخله باسم الواقعية والضرورة. حين يُقنع نفسه أن الصمت حكمة، وأن التنازل ذكاء، وأن النجاة الفردية فضيلة، يبدأ الانهيار من الداخل بهدوء لا يُسمع له صوت. هكذا تُهزم المجتمعات دون حرب، وتُعاد صياغة القيم دون قرارات رسمية، ويُربّى الخوف كقيمة عليا تحكم السلوك العام وتعيد تعريف الشرف، والنجاح، وحتى معنى الوطنية.
ولذلك، فإن أخطر المعارك ليست على الحدود ولا في الميادين، بل في الوعي. معركة الإنسان مع نفسه حين يُطالب بالاختيار: أن يكون شاهدًا صامتًا أو شاهدَ حق. فالتاريخ لا يُكتب بالحياد، بل بالمواقف التي بدت خاسرة في وقتها، ثم تحولت لاحقًا إلى أعمدة أخلاقية تُقاس بها الأمم. وحده من يدفع ثمن وعيه كاملًا، يملك حق الكلام باسم المستقبل.
نحن أبناء الأسئلة الصعبة لا أبناء الإجابات الجاهزة. كل فكرة عظيمة بدأت بشك، وكل نهضة بدأت بوجع، وكل وعي حقيقي مرّ من باب الخسارة. في زحام الادعاء يصبح الصدق فعلًا ثوريًا، وفي زمن الضجيج يصبح العمق تهمة، لكن التاريخ لا يذكر الصاخبين، بل أولئك الذين قالوا الحقيقة بهدوء ودفعوا ثمنها كاملًا.
أقول أنا:
«لا تبحث عن مكانك في العالم، اصنع قيمتك أولًا، فالمكان الحقيقي يأتي احترامًا لا دعوة.»
وفي النهاية، لا ينتصر الأقوى بل الأصدق. لا يبقى من الإنسان منصبه ولا اسمه ولا صورته، بل أثره وموقفه حين كان الصمت أسهل والكذب أكثر أمانًا. من أراد الخلود فليزرع معنى، ومن أراد النجاة فليحمل ضميره معه أينما ذهب، أما الذين راهنوا على الوقت فسيكتشفون متأخرين أن الوقت لا يرحم من خان نفسه.
وما الإنسانُ إلا موقفٌ في ساعةٍ
إن ضاعَ، ضاعَ العمرُ مهما امتدّا
فكنْ أنتَ المعنى إذا ضلّ الورى
فبالمعنى يُقاسُ المجدُ لا العددا



