الدكتور عباس المحارمة … حكاية رجل دخل البلدية بعقل المفكر وخرج منها بأثر مدينة

كتب: ليث الفراية

في المدن التي تُرهقها التفاصيل، لا تبدأ الحكايات من المكاتب، بل من الشوارع الضيقة، من الأسئلة الثقيلة التي يحملها الناس في صدورهم وهم يمرّون بجانب مبانٍ حكومية يعرفون مسبقًا أنها لا تشبههم سحاب، المدينة التي كبرت أسرع مما يجب، لم تكن يومًا سهلة على من جلس في كرسي رئاستها البلدية ومع ذلك، في مرحلة ما، دخلها الدكتور عباس المحارمة لا كموظفٍ يبحث عن توقيع، بل كفكرة تمشي على قدمين، تحاول أن تُقنع المدينة بأن البلدية يمكن أن تكون عقلًا لا عصا، ومسارًا لا متاهة.

لم يكن الرجل ابن الخطاب الشعبوي، ولا من هواة الوعود السهلة جاء إلى رئاسة بلدية سحاب في زمن كانت فيه المدينة مثقلة بضغط الصناعة، وبثقل السكان، وبسؤال خفي يتردّد في الشارع: هل البلدية معنا أم فوقنا؟ السؤال نفسه شكّل جوهر التجربة التي قادها المحارمة، تجربة حاول فيها أن يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والمؤسسة، بين المدينة ومن يديرها، دون أن يدّعي امتلاك إجابات جاهزة.

في تجربة عباس المحارمة، لم تكن سحاب مجرد وحدة إدارية، بل اختبارًا أخلاقيًا يوميًا فالمدينة التي تتقاطع فيها مصالح كبرى مع احتياجات بسيطة، تفرض على من يديرها أن يختار في كل مرة: هل ينحاز للرقم أم للإنسان؟ هل يُسهِّل الطريق للأقوى أم يحمي الأضعف؟ هنا، لم يكن القرار إداريًا فقط، بل موقفًا أخلاقيًا يُحاسَب عليه صاحبه أمام الناس والتاريخ معًا.

كان واضحًا أن الرجل يدرك أن السلطة المحلية، مهما بدت صغيرة، قادرة على إحداث ظلم كبير إذا أُسيء استخدامها، وقادرة في المقابل على صنع عدالة يومية هادئة إذا أُديرت بعقل وضمير لذلك، لم يتعامل مع منصبه كامتياز، بل كمسؤولية ثقيلة، يعرف أن أخطاءها لا تُدفع من أوراق رسمية، بل من حياة الناس نفسها.

في العمل البلدي، كثيرًا ما تُختصر الأمور بإسفلت وبلوك وإنارة لكن عباس المحارمة تعامل مع البلدية بوصفها كائنًا حيًا، لا ماكينة خدمات كان يرى أن أي شارع لا يبدأ من فكرة، سينتهي بحفرة، وأن أي قرار لا يُفكَّر به اجتماعيًا وسياسيًا، سيتحوّل إلى عبء لا إنجاز.

خلفيته الأكاديمية لم تكن عبئًا نخبويًا، بل أداة لفهم أعمق للواقع حيث كان ينظر إلى سحاب كمدينة تحتاج إلى تنظيم علاقتها بذاتها قبل أن تحتاج إلى توسعة شوارعها لذلك، لم تكن الإدارة عنده ردّ فعل يومي، بل محاولة دائمة للإمساك بالخيط الذي يربط الناس بالمكان، والمكان بالدولة.

لم تكن الطريق ممهدة حيث واجهت تجربة المحارمة بيروقراطية متجذّرة، ومحدودية موارد، وتوقعات عالية من مجتمع اعتاد الوعود أكثر من النتائج ومع ذلك، لم يدخل في صدام شعبوي مع الواقع، ولم يرفعه كشعار احتجاجي، بل حاول أن يفهمه، ويُعيد تشكيله ببطء، حتى لا ينكسر النظام ولا ينكسر الناس.

في كثير من المحطات، كان الصمت جزءًا من الإدارة، والتأجيل قرارًا مدروسًا، والتراجع خطوة إلى الخلف وسيلة للتقدم لاحقًا وهذه فلسفة نادرة في العمل العام، حيث يُكافأ الصخب أكثر من الحكمة، وتُحتسب الجرأة بالكلام لا بالنتائج.

لم تكن تجربة عباس المحارمة صاخبة حيث لم تملأ الشاشات، ولم تُدار بمنطق الاستعراض لكنها كانت ثقيلة بما يكفي لتترك أثرًا فالمشاريع التي نُفذت في عهده لم تُقدَّم كمنّة، بل كجزء من حق المدينة على إدارتها حيث البنية التحتية، البيئة، المساحات العامة، والتنظيم الداخلي للبلدية، كلها جاءت ضمن مسار مهني ثابت، كمن يعرف أن المدن لا تُبنى بالاستعجال، بل بالصبر.

وكان التحدي الأكبر هو إدارة مدينة صناعية دون أن تتحوّل إلى ضحية للصناعة هنا، اختبر المحارمة أصعب المعادلات “كيف تحمي الاقتصاد المحلي دون أن تخنق الإنسان؟ كيف توازن بين المستثمر والمواطن؟ وكيف تُقنع الجميع أن البلدية ليست خصمًا لأي طرف، بل حكمًا يحاول أن يكون عادلًا قدر الإمكان؟” .

في تفاصيل صغيرة، تشكّلت ملامح التجربة في طريقة استقبال المواطنين، في لغة الخطاب، في الاستماع الطويل لشكوى قد تبدو بسيطة لكنها تمثل عالمًا كاملًا لصاحبها هنا، كان عباس المحارمة يمارس الإدارة بوصفها فعلًا إنسانيًا قبل أن تكون إجراءً قانونيًا حيث لم يكن يؤمن بأن الأنظمة وُجدت لتعقيد حياة الناس، بل لتنظيمها، ولم يتعامل مع النصوص بوصفها جدرانًا صمّاء، بل مساحات يمكن أن تُفهم وتُطبّق بروحها لا بحرفيتها القاسية هذه المقاربة، وإن لم تُرضِ الجميع، إلا أنها صنعت حالة نادرة من الشعور بأن البلدية ليست خصمًا للمواطن.

في واحدة من أكثر نقاط تجربته حساسية، فتح عباس المحارمة أبواب البلدية على اتساعها للمجتمع لم يتعامل مع الناس كملفات، بل كحكايات، مع الشباب كطاقة لا كمشكلة، ومع المجتمع المدني كشريك لا كضيف ثقيل هذه المقاربة لم تكن سهلة، لكنها كانت ضرورية في مدينة تحتاج إلى من يسمعها قبل أن يديرها هنا، تغيّر شكل العلاقة بين المواطن والبلدية حيث لم تعد الأخيرة مبنى صامتًا، بل مساحة نقاش، اختلاف، وأحيانًا توتر، لكنه توتر صحي نابع من شعور الناس بأن صوتهم بات مسموعًا.

ما ميّز تجربة المحارمة أيضًا أنها جعلت من سحاب مرآة مصغّرة لفكرة الدولة حيث كل خلل في التشريع، كل ضعف في الصلاحيات، كل تضارب في المرجعيات، كان يظهر بوضوح في العمل البلدي ومن هنا، لم يكن حديثه عن اللامركزية تنظيرًا سياسيًا، بل صرخة إدارية نابعة من تجربة حقيقية لقد فهم أن المدينة لا يمكن أن تُدار جيدًا إذا بقيت البلديات مقيدة، ولا يمكن أن يُطلب من رئيس بلدية أن يُنجز دون أن يمتلك الأدوات الكافية لذلك، جاءت مواقفه وكتاباته لاحقًا امتدادًا طبيعيًا لما عاشه، لا محاولة لإعادة تسويق مرحلة انتهت.

ربما لا يُقاس إرث عباس المحارمة بعدد المشاريع وحدها، بل بما هو غير مرئي “بثقافة إدارية، بطريقة تفكير، وبأسئلة بقيت مفتوحة في أذهان من عملوا معه ومن جاءوا بعده” الإرث الحقيقي، أحيانًا، ليس ما نراه، بل ما نعتاد عليه دون أن نشعر، كأن تصبح فكرة الشراكة مع الناس أمرًا بديهيًا، لا استثناءً وهذا النوع من الإرث هو الأصعب، لأنه لا يُوثّق بلوحات، ولا يُفتتح بشريط، لكنه يظل حاضرًا في طريقة العمل، وفي سقف التوقعات، وفي وعي المدينة بذاتها.

حين غادر عباس المحارمة رئاسة بلدية سحاب، لم يُغادر التجربة نفسها حيث بقي حاضرًا من خلال فكره، وكتاباته، واشتغاله على ملف اللامركزية بوصفه جوهر الإصلاح الحقيقي. لم يكن ذلك حنينًا إلى موقع، بل إصرارًا على أن الأفكار التي لم تكتمل في المنصب يجب أن تستمر خارجه.

في نهاية القصة، لا يبقى الكرسي، ولا اللافتة، ولا العناوين المؤقتة بقدر ما يبقى الأثر فتجربة عباس المحارمة في سحاب ليست مثالية، لكنها حقيقية، وهذا ما يمنحها قيمتها فهي تجربة لرجل حاول أن يكتب للمدينة سطرًا مختلفًا، دون أن يدّعي أنه كتب الرواية كاملة فسحاب التي عرفته رئيسًا للبلدية، تعرف اليوم أنه غادر الموقع، لكنه ترك سؤالًا مفتوحًا “ماذا لو أُديرت المدن بعقل الفكرة لا بعجلة المنصب؟” سؤالٌ وحده، يكفي ليجعل هذه التجربة جديرة بأن تُروى.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى