إطلاق مواسم الحفريات الآثارية التعليمية في البترا: فكرة واقعية بعوائد استراتيجية

كتب أ.د. محمد الفرجات
في ظل التحديات الاقتصادية وتذبذب مواسم السياحة التقليدية، تبرز فكرة “إطلاق مواسم الحفريات الآثارية التعليمية الدولية في محمية البترا” كخطوة استراتيجية تجمع بين العلم والسياحة والتنمية، وتُعيد تموضع البترا على الخريطة العالمية ليس فقط كوجهة سياحية، بل كمختبر حي لدراسة حضارة الأنباط والبيئة الجيولوجية التاريخية للمنطقة.
1. واقعية الفكرة
الفكرة ليست جديدة تمامًا على المستوى العالمي. فدول مثل مصر، اليونان، إيطاليا، وتونس تنظم سنويًا “مواسم حفريات تعليمية” بالتعاون مع جامعات ومراكز بحثية عالمية، حيث يشارك طلبة الآثار والأنثروبولوجيا في عمليات تنقيب فعلية ضمن معايير مهنية، ويُمنحون شهادات خبرة معتمدة، مما يجعل تلك المواقع مصدر جذب أكاديمي وسياحي دائم.
البترا، بتاريخها العريق وموقعها الأثري الفريد وتنوعها الطبيعي والجيولوجي، تملك مقومات مبهرة تجعلها مؤهلة تمامًا لتبني هذا النموذج، خاصة وأنها محمية مدرجة على قائمة التراث العالمي، وتحتوي على مناطق غير مكتشفة بالكامل، مما يفتح الباب لأبحاث آثارية طويلة الأمد.
2. العوائد المحتملة
أ) عوائد اقتصادية
استقطاب مئات الطلبة والباحثين سنويًا ضمن برامج تعليمية مدفوعة (رسوم اشتراك، إقامة، لوجستيات)، مما يضخ سيولة نقدية ثابتة في المنطقة.
تنشيط القطاع الفندقي والمطاعم والنقل المحلي.
خلق فرص عمل موسمية للمرشدين، المترجمين، الفنيين، وأبناء المجتمع المحلي.
ب) عوائد علمية
تطوير قاعدة بيانات آثارية دقيقة ومحدثة، يمكن الاستفادة منها في الأبحاث والخرائط الرقمية التفاعلية.
تدريب الجيل الأردني الجديد من الطلبة والباحثين على أحدث أساليب التنقيب والتحليل والتوثيق.
ج) عوائد سياحية وتسويقية
ترويج البترا كمركز عالمي للبحث العلمي الأثري، مما يوسع جمهور المهتمين بها ليشمل الأكاديميين، الوثائقيين، وصناع المحتوى العلمي.
ربط السياحة الثقافية بالسياحة التعليمية وسياحة التجربة (Experience-based tourism)، وهي اتجاهات سياحية حديثة ومتنامية.
3. هل المشروع مجدٍ؟
نعم، الفكرة مجدية لعدة أسباب:
لا تتطلب بنية تحتية ضخمة جديدة، بل يمكن الاستفادة من ما هو قائم مع تطويرات بسيطة.
يمكن تأمين التمويل من الجامعات المشاركة أو الجهات الداعمة للبحث العلمي والثقافة (مثل اليونسكو، DAAD، Erasmus، وغيرها).
تنسجم مع رؤية التحديث الاقتصادي الأردنية، خاصة في مجال تعزيز السياحة البديلة والمستدامة.
4. الخطة المقترحة للتنفيذ
المرحلة الأولى: التحضير المؤسسي (0-6 أشهر)
تشكيل لجنة وطنية من وزارة السياحة، دائرة الآثار العامة، مفوضية البترا، وجامعات مختصة.
إعداد خارطة أولية لمواقع قابلة للتنقيب والتدريب، ضمن مناطق لا تمس القيمة الأثرية الحساسة.
وضع معايير وأطر عمل واضحة للمشاركة الأكاديمية (تصاريح، مستويات، مسؤوليات، توثيق، حماية بيئية وأثرية).
المرحلة الثانية: الإطلاق التجريبي (السنة الأولى)
دعوة 5-10 جامعات دولية للمشاركة في موسم تنقيبي تجريبي محدود.
إنشاء مراكز استضافة مصغرة (خيام مجهزة، أو استخدام نُزُل محلية).
تقييم التجربة من حيث السلامة، العائد، والانطباع الأكاديمي.
المرحلة الثالثة: التوسعة والتسويق (السنوات 2–5)
توقيع اتفاقيات طويلة الأمد مع جامعات ومراكز أثرية.
تنظيم مؤتمر سنوي في البترا حول الاكتشافات والتقدم البحثي.
إنتاج محتوى رقمي (وثائقيات، بودكاست، منصات تعليمية) للترويج.
إن تحويل البترا إلى مركز دولي للتنقيب والتعليم الأثري هو استثمار ذكي في مكان يحمل رمزية عالمية، ويجمع بين التاريخ والهوية والمستقبل. هذه الفكرة، إذا ما نُفذت بتخطيط محكم وتعاون مؤسسي، يمكن أن تتحول إلى رافعة اقتصادية وثقافية دائمة للجنوب الأردني، وتعزز من مكانة الأردن كمرجعية علمية وسياحية في المنطقة.