ليست همسة ولا ومضة ولا إطلالة مساء بل نقلا لما يوجد في الواقع المحزن

الاء العلي

زياراتي الاسبوعية للمستشفى لم تُشفِ مرضي بل زادت علي مرضا آخر لا دواءَ له دخلتُ لأهتم بشأني أقاوم خوفي أحمل قلبي بيدي كي لا يسقط مني في الممراتِ البيضاءِ الباردةِ لكن الألم الأكبر كان ينتظرني هناك في الأروقةِ حيث تتكدس الأوجاع التي لا يكتبها الطبيب في وصفته رأيت رجالًا كبارًا شابت رؤوسهم من طولِ التجارب انحنت ظهورهم من حملِ الأيامِ
آباءًا أثقلتهم السنون تسندهم أيدٍ مستأجرة لا قلوب من نسلهم خادمات يدفعن بالكراسي يربتن على أكتافٍ غريبةٍ مرتجفةٍ يسندونهم بعنايةٍ مدفوعةِ الأجرِ لا مدفوعةِ الحب فيما الأبناء غائبون كأن البر صار ترفًا وكأن الرحمةَ تُباع وتُؤجر
في ردهاتِ المستشفى البيضاء الباردة رأيت الحياة بوجهها الأقسى حين رأيت هؤلاء الاباء المسنين أجسادهم منهكة من السنوات عيونهم غارقة في الضباب ظهورهم مقوسة من ثقل التجارب كانوا يجلسون على كراسي متحركة يمدون أيديا مرتعشة وكأنهم يتشبثون بما تبقى لهم من كرامة وصبر لكن الأوجع من المرض كان غياب من يفترض أن يكونوا معهم لم يكن الأبناء إلى جوارهم لم أر يدا حانية لابن يربت على كتف أبيه ولا نظرة مطمئنة لابنة تمسك بيد أمها وتهمس لا تخافي أنا هنا لم يكن هناك سوى خادمات وجوه غريبة أيادٍ مستأجرة تؤدي عملًا بأجرٍ تدفع الكرسي بعنايةٍ محسوبةٍ تسألُ الطبيبَ بأسلوبٍ رسمي بارد تضع الماء أمام الشفاه المرتعشة كما لو أنها تفي بعقد عمل لا بعقد محبة
خرجت أحمل وجعهم فوق وجعي وأسأل الله ألا يجعلني يوما ثقلا على قلب من اعرف
عذبتني زيارتي حين رأيت الوحدة على هيئة آباء يرافقهم غرباء بدل الأبناء كم يؤلم أن يكون البر سلعة والخدمة مأجورة بدل أن تكون واجبا من القلب
تساءلت أين أبناؤهم؟ أين من قضوا أعمارهم يطعمونهم يربونهم يحرسون نومهم أين من سهروا عليهم حتى كبروا؟ كيف استطاع هؤلاء الأبناء أن يغيبوا؟ أن يختاروا ألا يكونوا هنا في لحظة الضعف في أصعب امتحان للإنسانية؟
كنت أسمع أنينهم مكتوما يهرب من بين شفاههم المتشققة أنين الوحدة أخفض من صوت الأجهزة لكنه أشد فتكا رأيت في عيونهم سؤالا موجعا: *هل أستحق هذا؟* سؤالا لا يجيب عنه أحد
خرجت من المستشفى مثقلة ليس فقط بما جئت به من مرضي بل بحزن جديد ثقيل خوفي عليهم وجرح عميق في إيماني بالبشر يا رب لا تجعلنا يوما عبئا على قلب قريب ولا تحرمنا ممن يخاف علينا وكأننا جزء من روحه اجعلنا ممن يبرون آباءهم في شيبتهم ممن يكونون عكازهم حين تخونهم أقدامهم
لقد عذبتني تلك الزيارات الأسبوعية علمتني أن الألم ليس في المرض فقط بل في غياب من يفترض أن يكون الدواء
لقد عذبتني زيارتي عذبتني أكثر من وخز الإبر عذبتني لأنها فتحت عيني على حقيقة مرة أحيانا لا يكون المرض في الجسد بل في القلوب الغائبة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى