واجب الوطن صقل النفس وبناء المستقبل بين القوة والوعي”

د. عمّار محمد الرجوب

في زمنٍ تتشابك فيه الفوضى بالطموحات، وتتمازج الحرية بالمسؤولية، يبرز القرار الحكيم كمنارةٍ تهدي الأجيال نحو أفقٍ أوسع من مجرد تفاصيل يومية. إن إعلان سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني المعظم عن إعادة تفعيل خدمة العلم ليس مجرّد إجراءٍ إداري أو خطوة تنظيمية؛ بل هو مشروع فلسفي واستراتيجي عميق، يعيد صياغة معنى الانتماء ويصقل الشخصية الوطنية للشباب. فكلّ يومٍ يقضيه الشاب في رحاب هذه التجربة، هو بمثابة نقشٍ على جدار الوعي، واختبارٍ للإرادة، وإعادة تعريفٍ لمفهوم الوطن؛ فالوطن ليس ترابًا يُمسك باليد، بل روحًا تُسكب في القلب قبل العقل، ورسالةً تُترجم في العمل قبل القول.

خدمة العلم ليست تدريبًا جسديًا أو تكتيكًا عسكريًا فحسب، بل هي رحلة وجودية داخل الذات، يمتحن فيها الشاب صبره، ويختبر طاقته على التحمل، ويعيد اكتشاف نفسه من جديد. ففي كل لحظة تعب، وفي كل تحدٍّ يواجهه، تتشكل معالم الشخصية، وتُقاس قوة الإرادة، ويُدرك المرء أن الحرية الحقيقية ليست في غياب القيود، بل في القدرة على الاختيار الواعي ضمن إطار الواجب والمسؤولية. وهنا تكمن فلسفة الخدمة الوطنية: صناعة مواطنٍ فاعل، قائدٍ قبل أن يكون تابعًا، منتمٍ قبل أن يكون باحثًا عن ذاته.

من منظورٍ نفسي، تمنح هذه التجربة للشباب فرصةً فريدة لصقل شخصياتهم، وتطوير مهاراتهم الاجتماعية، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وبالآخرين. فهي تدربهم على الصبر أمام الشدائد، وتعلّمهم معنى التضامن في مواجهة الأزمات، وتعيد رسم حدود الذات على ضوء الواجب والانتماء. الشاب الذي يخوض تجربة خدمة العلم لا يبقى متلقّيًا للمعرفة والخبرات؛ بل يغدو صانعًا للتغيير، مشاركًا في بناء وعيه الجمعي، ومساهماً في صياغة مصيره ومصير وطنه.

هذا القرار يحمل رسالة واضحة مفادها أن الاستثمار في الشباب هو الاستثمار الأنجع للمستقبل. فأمةٌ تراهن على طاقات شبابها، إنما تراهن على استقرارها وكرامتها وامتدادها الحضاري. فكل شاب يخوض غمار هذه التجربة يصبح رسولًا للقيم، وفاعلًا في صناعة الوعي الجمعي، ومشاركًا في بناء المجتمع وصيانة هويته. وهنا يلتقي الوعي الفردي بالقرار الوطني، ليشكّلا معًا مسارًا للنهضة.

لقد أثبتت التجارب العالمية أن الخدمة الوطنية ليست مجرد إعداد بدني، بل هي مدرسة متكاملة للقيادة والإدارة. فالدول التي طبّقت الخدمة العسكرية الإلزامية أنجبت أجيالًا قادرة على تحمّل المسؤوليات الكبرى، وأثبتت قدرة أعلى على مواجهة الأزمات. هذه التجارب تبرهن أن بناء الأوطان يبدأ من بناء الإنسان، وأن الانضباط ليس قيدًا، بل جناحًا يرفع الروح نحو سماء الإنجاز.

إيجابيات إعادة خدمة العلم للشباب عديدة، فهي تُنمّي روح القيادة، وترسّخ العمل الجماعي، وتزرع الانضباط كقيمة حياتية، وتغرس وعيًا وطنيًا عميقًا. كل تحدٍّ يخوضه الشاب يتحوّل إلى درسٍ في الحياة، وكل تجربة اختبارية تصبح بذرةً لطموحٍ أكبر. وهكذا تتحول القوة الفردية إلى قوة جماعية، ويتحوّل الطموح الشخصي إلى مشروع وطني. إن القوة بلا وعي، والحرية بلا انتماء، لا تصنع إلا فراغًا، والدولة الحقيقية تُبنى على النفوس الواعية قبل أن تُشيّد على المباني والهياكل.

إنّ رحلة خدمة العلم ليست مجرد محطة عابرة، بل هي تجربة تصنع وعيًا جديدًا، وتغرس روحًا مسؤولة، وتمنح الشباب هويةً أعمق من الانتماء العاطفي. فهي تخلق مواطنًا يعي دوره، ويشعر بأنّه جزء من كيانٍ أكبر يُشارك في بنائه وصيانته. الوطن الذي يصقل شبابه، يصقل ذاته، والقيادة التي تمنح الشباب فرصة المواجهة، تمنح المجتمع استقرارًا وازدهارًا. وهنا تتجلّى الحكمة العميقة: الدولة التي تراهن على شبابها، تراهن على المستقبل، والأجيال الواعية هي الضمانة الحقيقية للمجد والكرامة.

وأنا أقول
الشباب هم الجسر الذي يربط اليوم بالغد، وهم الفعل الواعي الذي يحوّل الكلمة إلى واقع، والوعد إلى إنجاز، والواجب إلى معنى خالد يربط الذات بالوطن.

وإذا ما صغتُ ذلك شعرًا قلت:

إذا أراد الشباب أن يرقى بالوطن
فالواجب نور يسطع في العيون
وكلّ غرسٍ يُزرع اليوم بالأمل
يزهر غدًا كالأحلام والزهور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى