سلام ترامب .. من إخفاق غزة إلى اختبار سوريا ولبنان !

مهدي مبارك عبد الله

في الوقت الذي تعجز فيه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حتى الآن عن امكانية إنهاء الحرب الدامية في غزة ومع تصاعد جرائم الاحتلال الجماعية وتآكل مصداقية المبادرات الدولية يعود دونالد ترامب إلى المشهد حاملاً خطابًا يبشر بصفقة ( سلام تاريخية ) جديدة لكنها هذه المرة في سوريا ولبنان بعد فشل جميع رهاناته السابقة على انجاز تسويات سريعة مع الاحتلال الإسرائيلي وترنح اتفاقيات أبراهام تحت ضربات الواقع حيث يلوح ترامب بورقة سلامه المزعوم آملًا في استثمار حالة الإنهاك الإقليمي والانقسامات الداخلية في محور المقاومة اللبنانية لصياغة معادلة تفاهم وفقا للاشتراطات الصهيو امريكية

امام كل هذا الهرج السياسي المستهدن يبقى السؤال الملح هل يملك ترامب فعلاً الأدوات والظروف المواتية لصناعة سلام قابل للحياة في اوقات وساحات معقدة جدا كالساحة اللبنانية والسورية أم أن مشهد غزة المتصاعد كفيل بكشف محدودية الرؤية الأمريكية وتكرار إعادة إنتاج وتدوير لوهم ” السلام من طرف واحد ” لن يصمد يومًا أمام اختبارات الميدان في فلسطين

أولى الخطوات الأمريكية في هذا الشأن تمثلت في دعم قوي لزعيمين جديدين هما أحمد الشراع الذي تولى الرئاسة في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد والرئيس اللبناني جوزيف عون القائد السابق للجيش الذي صعد إلى الحكم عقب الحرب الاخيرة بين حزب الله وإسرائيل حيث فاجأ ترامب الجميع في مايو الماضي بإعلانه رفع العقوبات عن دمشق قبل أن يعين صديقه المقرب منذ 40 عامًا توماس باراك مبعوثًا خاصًا إلى سوريا مكلفًا بملف إعادة العلاقات بين واشنطن ودمشق والمساعدة في استقرار الوضع السوري والتحضير لاحتمال عقد اتفاق سلام مبدئي بين سوري إسرائيلي

الملاحظ جيدا انه بالرغم من التفاهمات الأمنية والصفقات الاقتصادية المتتالية فقد فشل ترامب خلال ولايته السابقة في إحداث أي اختراق حقيقي على المسار الفلسطيني بل ساهمت قراراته مثل الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة إليها في تعميق القطيعة بين واشنطن والشعب الفلسطيني وقد جاءت حرب غزة الأخيرة لتقلب الطاولة بالكامل إذ أثبتت أن ردع إسرائيل الذي تتفاخر به كان ضعيف وهش وأن المقاومة الفلسطينية رغم الحصار الطويل ما زالت قادرة على الفعل والتأثير سياسيًا وميدانيًا بشكل مؤلم

الامر الأهم في القضية أن المعادلة التي حاول ترامب تكريسها عبر ما يسمى باتفاقيات أبراهام ثبت فشلها حيث تأكد انه لا يمكن تجاوز الفلسطينيين في أي تسوية قادمة وهذا الإخفاق هو الذي يدفع ترامب اليوم للبحث عن مواقع و مسارات بديلة حين ظن أن الملفين اللبناني والسوري ربما أقل تعقيدًا أو على الأقل أكثر قابلية للضغط بفعل الظروف الاقليمية المستجدة

في هذا الصدد يتسأل الكثيرين لماذا سوريا ولبنان الآن وما هي دوافع ترامب الخفية وهو يحاول استثمار عدد من المعطيات الإقليمية لطرح مشروع سلام متقدم في الساحتين السورية واللبنانية وأبرزها الوضع الاقتصادي المنهك في البلدين حيث يراهن ترامب على الضغوط المعيشية المتفاقمة لتليين مواقف القوى السياسية الرافضة مقابل وعود مالية واستثمارات مستقبلية بالإضافة الى ممارسة الضغوط الدولية على إيران كطرف في المعادلة بما في ذلك ابقاء العقوبات حيث يراهن ترامب بأن طهران في النهاية قد تكون مضطرة لتقديم تنازلات في ملفات إقليمية منها لبنان في سبيل تخفيف الضغط أو إعادة التفاوض معها

كما عمد ترامب الى استغلال الفراغ السياسي والشلل الدستوري في لبنان ما جعله يعتقد ان الفرصة مواتية لإعادة تشكيل قواعد اللعبة هناك عبر تسوية مدعومة من بعض الأطراف الإقليمية فضلا عن محاولته المتذاكية لاستباق تطورات ما بعد حرب غزة حيث يدرك ترامب أن تداعيات الحرب قد تمتد إقليميًا ودوليا ولهذا يسعى بكل الوسائل لإحكام الطوق السياسي على جبهات المقاومة الأخرى في المنطقة ورغم أن هذه التحركات لا تحظى بزخم إعلامي داخل واشنطن الا إنها قد تفضي في نظر البعض إلى تقرير تحولات تاريخية في الشرق الأوسط

بالتدقيق في هذا المشهد البنيوي المعقد نتساءل ماهي المعوقات لأي تسوية محتملة في لبنان وسوريا مع الاخذ بعين الاعتبار ان قراءة ترامب للمنطقة تتجاهل الكثير من الحقائق الجوهرية في لبنان تحديدا وفي مقدمتها ان أي تسوية غير مشروطة مع الاحتلال الإسرائيلي سوف تصطدم مباشرة بموقف حزب الله الذي لا يتعامل مع مفهوم السلام خارج معادلة الردع واستعادة الحقوق كما أن الذاكرة اللبنانية ما زالت تحمل جراح الاحتلال من مجازر الجنوب إلى الاجتياح إلى الأسرى إلى دعم ميليشيات عميلة أضف إلى ذلك أن الشارع اللبناني بمختلف أطيافه ليس مهيأ ولا ناضجًا بعد لأي تطبيع مباشر سواء سياسيً او شعبيً مع اسرائيل

الوضع في سوريا مختلف لكنه أكثر تعقيد حيث ما زال النظام الجديد نظريا في حالة مواجهة رسمية مع إسرائيل التي تشن غارات أسبوعية على أراضيه وتحتل الجولان رغم بدء المباحثات بشان محاولات الوصول الى اتفاق امني بعد اللقاء بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ومندوب إسرائيل مُمثَّلًا بوزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر والذي عقد في باريس بمشاركة المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توماس باراك لبحث تهدئة الوضع في الجنوب السوري إضافة إلى دراسة تحقيق مسار أعمق للسلام بين البلدين في محادثات تعد الأولى من نوعها منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عام 2000 وبمعنى آخر ربما حتى الان لا يوجد سياق سياسي أو وطني ملائم يسمح بقيام ( سلام ترامب ) في سوريا أو لبنان دون كسر العمود الفقري لمحور المقاومة وانهاء تاثيرها وحتى اللحظة لم تثبت أي من أدوات ترامب قدرتها على تحقيق ذلك صعب المنال

ضمن أي تفكير مستقبلي لإنجاز أي مشروع سلام في لبنان يعتبر موقف حزب الله حجر الزاوية ومن دون موافقته لا يمكن لأي سلام أن يستقر في لبنان ولا يمكن لأي تحول أن يكون ذا مغزى والحزب الذي راكم قوة عسكرية ومكانة إقليمية منذ التحرير عام 2000 يدرك جيدًا أن مشروع ترامب ليس سوى نسخة معدلة من صفقة القرن البائدة وأن هدفه الأساسي هو تحييد الجبهة الشمالية لإسرائيل وليس تحقيق السلام العادل للبنان وفي خطابه السياسي المتواصل لم يترك الحزب مجالًا للغموض حيث اعلن امينه العام نعيم قاسم صراحة ان ( لا تطبيع ولا تنازل عن ثروات لبنان البحرية ولا تفريط بمعادلة الردع ) ولذلك فان أي مشروع سلام لا يمر من خلال معادلة السيادة والمقاومة سيبقى مجرد تمنيات أمريكية معلقة في الهواء لن تصل الى ارض الواقع

بمراجعة تداخلات المشهد السياسي والمعادلة العسكرية القائمة يجب ان لا ننسى ان الرسائل الإسرائيلية السامة تنتشر خلف الكواليس رغم الترحيب الظاهري من بعض الجهات في تل أبيب بفكرة قيام سلام ممتد يشمل سوريا ولبنان إلا أن المؤسسات الأمنية الإسرائيلية تدرك جيدا أن أي استقرار سياسي حقيقي في هاتين الدولتين سيترافق مع إعادة التسلح والتموضع ومن هنا فإن الهدف الإسرائيلي الحقيقي ليس الوصول للسلام بل تفكيك المقاومة ونزع سلاحها وإنهاء النفوذ الإيراني في لبنان وهذه المتطلبات في الواقع ليست مجرد شروط سلام بل هي فروض استسلام وهو ما تعرفه قوى المنطقة بمختلف انتمائاتها وترفضه جملةً وتفصيلًا

خلال السياق ذاته أكد اكثر من مسؤول أمريكي بارز بأن عام 2025 يمثل فرصة استثنائية لترامب لتعزيز صورته ( كصانع سلام ) وأن العديد من القادة الإقليميين والدوليين ينظرون إلى ترامب في هذه المرحلة باعتباره قوة عظمى يجب استرضاؤها لكن الوقت ليس في صالح واشنطن، إذ إن نفوذها يتراجع مع مرور كل يوم

خاتمة : في العمق ما لم يدركه ترامب ومعه فريقه من مهندسي السلام الأحادي أن المنطقة برمتها لم تعد تخضع للمعادلات القديمة فلا يمكن فرض سلام فوق ركام السيادة الوطنية وحروب التدمير والقتل ولا يمكن القفز على حقوق الشعوب بصفقات اقتصادية أو هندسة أمنية وإذا كان فشل مشروعه في غزة قد شكل كشافً مبكرًا لعجزه فإن تكرارالسيناريو في سوريا ولبنان قد يتحول إلى مسمار أخير في نعش المسار والنموذج الأمريكي للسلام

بناء على كل ما تقدم يمكننا القول انه إذا أراد ترامب النجاح أو حتى مجرد الادعاء بذلك فلا بد من بحثه عن معادلة قابلة للتنفيذ تقوم على انسحاب اسرائيل من كامل من الأراضي المحتلة واحترام السيادة الوطنية وإنهاء العدوان والاعتراف بحقوق الشعوب دون فرض إملاءات القوة وشروط الهيمنة والنزعات التوسعية وما عدا ذلك سيبقى سلام ترامب مجرد سراب متجدد في صحراء مشتعلة

باحث وكاتب مختص في الشؤون السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى