ميلاد آخر بين جدران الجامعة حين ينهض الطالب من رماد التوجيهي”

د. عمّار محمد الرجوب

بين رماد التوجيهي، ينهض الطالب كطائر يرفرف جناحيه لأول مرة خارج قفص مألوف، وكفارس يضع قدمه على أرض ميدان لم يُرَ من قبل، حيث لا خريطة محددة تحدد الطريق، ولا صوت قائد يوجّه الخطى. كل زاوية في الجامعة، كل محاضرة، وكل تجربة جديدة تبدو كأفق مجهول يدعوه ليختبر ذاته، ليعرف قدراته وحدوده، وليواجه مسؤوليات لم يعرفها من قبل. هذا الانتقال ليس مجرد عبور من مرحلة إلى أخرى، بل ميلاد جديد لعقل، وولادة ثانية للروح، وانطلاق نحو أفق لم يعرفه من قبل.

تبدأ الرحلة عندما يرى الطالب اسمه بين نتائج التوجيهي، لحظة تملؤها البهجة والخوف معًا، فهي إعلان لنهاية فصل من حياته وبداية فصل آخر أكثر اتساعًا وتعقيدًا. لم يعد النجاح مقتصرًا على العلامات، بل صار اختبارًا لإرادته، لم يعد محصورًا في الدرجات، بل امتد إلى بناء شخصيته وقدرته على مواجهة الحياة بمسؤولية ووعي. فالجامعة ليست جدرانًا أو مقاعد خشبية، بل مختبر للوعي، ساحة لصقل الشخصية، ومسرح لتصادم الأفكار. هنا يلتقي الطالب بأساتذة متعددين، وزملاء من خلفيات متنوعة، وبيئة تعليمية تختلف عن كل ما اعتاد عليه. لكل محاضرة طعم مختلف، لكل نقاش بعده تداعيات في ذاته، وكل تجربة حياة يكتسبها تضيف لونًا جديدًا على شخصيته.

الانتقال من التوجيهي إلى الجامعة ليس مجرد تحول أكاديمي، بل هو انتقال فلسفي وجودي: الطالب يواجه السؤال الأكبر “من أنا؟ وماذا أريد أن أكون؟” لأول مرة بشكل كامل وملموس. إنه يكتشف أن المعرفة وحدها لا تكفي، بل الحاجة إلى التفكير النقدي، والوعي الذاتي، وتحمل المسؤولية، والتفاعل مع الآخرين بشكل يخلق فرقًا حقيقيًا في ذاته وفي مجتمعه. كل تجربة في الجامعة هي مرآة تعكس شخصية الطالب. هل هو قادر على تنظيم وقته بين الدراسة والنشاطات والواجبات؟ هل يستطيع التوازن بين الحرية الشخصية والانضباط الأكاديمي؟ هل يعي أنّ النجاح هنا لا يُقاس فقط بالعلامات، بل بإرادة الإنسان على أن يصبح أفضل نسخة من نفسه؟ هذه الأسئلة تشبه اختبارًا متواصلاً للحياة، كل يوم، وكل قرار.

لكن الطالب وحده لا يكفي، فالأهل مطالبون بلعب دور جديد ومتوازن. لم يعد ابنهم طفل المدرسة الذي يُقاد بالتعليمات الصارمة، بل شاب يختبر الحرية والمسؤولية معًا. الأسرة الناجحة هي التي تتحوّل من مراقب صارم إلى شريك واعٍ، من حامي إلى مرشد، من سلطة إلى سند. إذا اختار الطالب السكن الجامعي بعيدًا عن المنزل، على الأسرة أن ترى ذلك فرصة للتدريب على الاستقلال، لا تهديدًا للعلاقة. إذا انشغل الطالب بالأنشطة الأكاديمية والثقافية، يجب تفهم التأخر دون فرض القيود، مع توجيه واعٍ. إذا كون صداقات جديدة، يجب توجيهه بطريقة تحافظ على القيم، لا منع التجربة. الإصلاح الأسري هنا ليس خيارًا بل ضرورة. الطالب يحتاج الدعم النفسي والمعنوي، يحتاج الحوار والتوجيه دون تقييد، يحتاج أن يشعر بالثقة من أهله ليصبح واثقًا بنفسه أمام العالم. الأسرة التي تنجح في هذا الدور تخلق طالبًا متوازنًا قادرًا على المساهمة في المجتمع، والاقتصاد، والوطن، وتخرج منه جيلًا واعيًا ومؤثرًا.

الجامعة ليست فقط مكانًا لتلقي العلم، بل مرآة للمجتمع، وفضاء لصقل المواطن الواعي. الطالب الجامعي جزء من معادلة الحياة الكاملة: الاقتصاد، السياسة، المجتمع، الثقافة، وحتى الروح الوطنية. عليه أن يفكر في دوره في سوق العمل، في المشاريع والمبادرات، وفي المساهمة في وطنه. كل مشروع، كل فكرة، كل نقاش، كل نشاط، هو تدريب عملي على الحياة الواقعية. إنها المرحلة التي يواجه فيها الطالب واقعًا أوسع من أي اختبار سابق، حيث يُقاس وعيه ليس فقط بما يعرف، بل بما يفعل، وبقدرته على اتخاذ القرارات الصحيحة في بيئة غير مهيأة دائمًا للراحة أو التيسير. النجاح هنا هو أن يصنع الطالب أثرًا حقيقيًا، وأن يختبر نفسه يوميًا، وأن يكون جزءًا فاعلًا في مجتمعه ووطنه.

الجامعة تعلم الطالب درسًا غير موجود في الكتب: الحياة لا تُبنى على الحفظ والتكرار، بل على التفكير النقدي، والتفاعل الإيجابي، والقدرة على مواجهة المجهول. إنها امتحان للحرية، امتحان للمسؤولية، امتحان للفكر المستقل. الطالب الذي يفهم هذا العبور هو الذي يُصبح مشروع وطن صغير، والأسرة التي ترافقه في هذه المرحلة تُصبح أساس بناء هذا الوطن. وهنا، يصبح التعليم الجامعي أكثر من مجرد شهادة؛ إنه معركة وعي وحرية ومسؤولية، اختبار للصبر والتفكير، ومسرح لصقل الشخصية وإعداد المواطن المتكامل.

وكما يقول جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين: “إنّ الشباب هم طاقة الوطن الحقيقية، وعماد مستقبله، ولن يتحقق التغيير الإيجابي إلا إذا امتلكوا الوعي والعلم والإرادة.” فهذه الكلمات ليست مجرد شعارات، بل خارطة طريق ترسم ملامح مسؤولية الطالب، ودور الأسرة، ورؤية المجتمع لمستقبل الوطن.

ومع ذلك، ليست الجامعة مجرد قاعات أو شهادات، بل ميدان الحياة الحقيقي. الطالب الذي يخرج منها بلا وعي يظل رقمًا في دفتر الحياة، أما من يخرج منها واعيًا، فقد أصبح مؤسسًا لمستقبل الوطن، حاملًا للمعرفة والفكر والإرادة، مستعدًا للقيادة، جاهزًا للابتكار، قادرًا على صناعة الفرق.
وهنا اقول:
“ليست الجامعة مجرد قاعة أو شهادة؛ إنها ميدان الحياة الحقيقي، حيث يُصنع الإنسان، ويُختبر الوطن، وتُكتب فيه الأقدار. من خرج منها بلا وعي، خرج رقمًا؛ ومن خرج منها بالوعي، خرج مؤسسًا لمستقبل الأمة.”
واقول من شعري:
يا طالبًا حلُم الأوطان يحملهُ
سِرْ فالعقولُ لهيبٌ حين تشتعلُ
لا تُطفئ النارَ إنّ العمرَ رحلةُ مَن
صاغوا الوجودَ وعزمُ الحقِّ يكتملُ

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى