إلهام لي تشاو: بين الذاكرة واللامبالاة

إلهام لي تشاو

قبل عامين، هز دخان غزة العالم بأسره. أعداد القتلى المتزايدة، صرخات النازحين بين الأنقاض، ودموع الأطفال التي لم تجف جعلت الكثيرين يعتقدون أن المجتمع الدولي سيتحرك بشكل حاسم، لكن مرور الزمن كشف حقيقة مختلفة: حين تصبح الدماء والقصف مجرد عناوين يومية متكررة، تتسارع ذاكرة البشر نحو النسيان، ويترسّخ نوع من التعايش مع المأساة. إن حرب غزة التي اندلعت قبل عامين لم تكن مجرد صراع إقليمي، بل مرآة كاشفة لبرودة النظام الدولي وعجزه.

على مدى عامين، عانت غزة من الحصار المستمر، وانقطاع الطاقة ونقص الأدوية، وانهيار البنية التحتية على نطاق واسع. أطفال لا حصر لهم نشأوا في ظل الجوع والخوف. المساعدات الدولية تدخل أحياناً لكنها لا تكفي لمعالجة حجم الكارثة. تقارير منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة حذّرت مراراً من “عواقب كارثية”، لكن الصراع بين القوى الكبرى طغى على النداءات الإنسانية. ظلّ المدنيون الفلسطينيون على هامش لعبة سياسية دولية قاسية.

والمفارقة بعد عامين من الحرب أنّ النيران لم تفتح الطريق أمام جهود سلام أكثر جدّية، بل جعلت التوتر في المنطقة أكثر حدّة. الولايات المتحدة ما زالت منحازة لإسرائيل سياسياً وعسكرياً، فيما تقف أوروبا مترددة بين المسؤولية والواقع، غير قادرة على أداء الدور المنتظر منها. أما الدول العربية، فهي لم تتوقف عن المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار وبالعدالة المتمثلة في إقامة الدولة الفلسطينية، غير أن جهودها كثيراً ما تُقابل بضغط خارجي وتعقيدات إقليمية. ومع ذلك، يظلّ الموقف العربي ثابتاً في اعتبار القدس الشريف وكرامة الشعب الفلسطيني خطوطاً حمراء لا تقبل المساومة.

خلال العامين الماضيين، ارتفعت أصوات البريكس ومنظمة شنغهاي و”الجنوب العالمي” بشأن القضية الفلسطينية. وحصلت فلسطين على المزيد من الاعترافات الدبلوماسية، الأمر الذي أضعف إلى حد ما احتكار الغرب للرواية، وأضفى بعداً معنوياً وسياسياً داعماً للفلسطينيين. ورغم أن هذه الاعترافات لم تغيّر بشكل مباشر معادلة الأمن على الأرض، فإن قيمتها الرمزية والاستراتيجية تبقى حاضرة، وهي مؤشر على التحول الجاري في المشهد الدولي.

إن الذكرى الثانية لحرب غزة تذكّرنا بأن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في استمرار الصراع، بل في قدرة المجتمع الدولي على التكيّف معه. حين تصبح الكوارث الإنسانية “وضعاً طبيعياً جديداً”، وحين تحلّ اللامبالاة محل الغضب، والنسيان محل الذاكرة، تتآكل آمال السلام تدريجياً. ففظاعة الحرب لا تُقاس بعدد المباني المدمرة فقط، بل بقدرتها على تآكل مشاعر التعاطف الإنسانية.

ومع ذلك، فإن وحدة وصمود الأمة العربية، إلى جانب الأصوات الجماعية للجنوب العالمي، لا تزال تترك نافذة أمل مفتوحة. فإذا استطاع العالم العربي أن يواصل جهوده على أسس أكثر تنسيقاً وانسجاماً، فسيمكنه أن يحوّل الضغط الخارجي إلى قوة دافعة لمشروع العدالة. إن الذكرى الثانية لحرب غزة ليست محطة للنهاية، بل جرس إنذار. فهي تذكّر العالم بأنه في زمن التعددية القطبية، إذا بقيت آليات الحكم العالمية عاجزة عن الاستجابة لأبسط المطالب الإنسانية، فإن “النظام الجديد” لن يكون إلا نسخة مكررة من البرودة القديمة. وحده وضع الحد الأدنى من القيم الإنسانية فوق الحسابات لسياسية كفيل بجعل السلام حقيقة ملموسة، لا مجرد شعارات دبلوماسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى