الجامعات الأردنية وقرار الكرامة الأكاديمية

بقلم: د. ناصر سامي فطاير
خبير تحليل البصمة الوراثية وإدارة المواهب والقدرات الفطرية – مستشار تطوير مؤسسي وريادة أعمال
……
في زمنٍ تتسابق فيه الجامعات حول العالم وراء الأرقام والمراتب، جاء قرار الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا والجامعة الألمانية الأردنية بالانسحاب من تصنيف التايمز للتعليم العالي (THE) ليشكّل محطة وعي نادرة، وإعلانًا جريئًا لاستعادة الكرامة الأكاديمية والهوية المستقلة.

لقد كنا، ومنذ سنوات، نحذر من الاعتماد الأعمى على التصنيفات الدولية التي لا تراعي خصوصية البيئة التعليمية العربية، ولا تعكس جوهر الرسالة الجامعية الحقيقية.
فالجامعة ليست رقمًا في جدول، بل منظومة فكرية وإنسانية تؤثر في المجتمع وتبني الأجيال وتطوّر الاقتصاد الوطني من الداخل، لا من وراء بوابات مؤسسات تجارية عالمية تُسعّر السمعة وتُتاجر بالمكانة الأكاديمية.

هذا القرار الأردني لا يُقرأ كانسحاب، بل كـ إصلاح استراتيجي ورسالة شجاعة تقول للعالم: “نحن نعرف قيمتنا، ولسنا بحاجة إلى من يمنحنا شهادة وجود.”
إنها خطوة تعبّر عن نضج وطني عميق وإدراك لمخاطر أن تُقاس المعرفة بمنهجيات لا شفافية فيها، تُغيَّر كل عام لتخدم مصالح تجارية أو جامعات بعينها.

ولعل من المهم التذكير أن هذا التوجّه لا يقتصر على الأردن، بل هو توجّه عالمي متصاعد.
فقد أعلنت جامعة السوربون في باريس قرارها بالانسحاب من تصنيف Times Higher Education اعتبارًا من عام 2026، مؤكدة أن منهجية التصنيف لم تعد تنسجم مع قيم العدالة والانفتاح العلمي.
وفي الاتجاه نفسه، اتخذت جامعة أوتريخت الهولندية قرارًا مماثلاً، معتبرة أن التصنيفات العالمية باتت تُفرغ التعليم من معناه الإنساني، وتحوّله إلى سباق في جمع النقاط بدلاً من بناء الإنسان.
أما في الولايات المتحدة، فقد كانت كليات القانون في جامعات ييل وهارفارد وكولومبيا أول من أعلن الانسحاب من تصنيفات U.S. News & World Report، احتجاجًا على معايير تُشجّع المظاهر وتُضعف القيم الجوهرية للتعليم.
بل إن جامعة كولومبيا نفسها قررت لاحقًا التوقف عن تقديم أي بيانات لهذه التصنيفات، حفاظًا على نزاهة صورتها الأكاديمية.

هذه الخطوات كلها تلتقي عند مبدأ واحد: أن التعليم ليس تجارة، والمعرفة ليست سباقًا على الألقاب.

الجامعة الأردنية اليوم تُعيد تعريف القيمة الحقيقية للمؤسسة الأكاديمية؛
القيمة التي تُقاس بقدرتها على تطوير العقول، وتحفيز الإبداع، واكتشاف المواهب الكامنة في طلبتها، لا بعدد الأبحاث المنشورة في دوريات مغلقة لا يقرأها أحد.

ومن موقعي كخبير في تحليل البصمة الوراثية (DMIT) وإدارة المواهب والقدرات الفطرية، أؤكد أن التميّز لا يُقاس بالأرقام، بل بالانسجام بين الهوية، والإبداع، والإنسان.
إن فهم القدرات الفطرية للأفراد والمؤسسات هو الطريق الحقيقي لبناء جامعات رائدة قادرة على المنافسة العالمية من الداخل لا من الخارج.
ولهذا فإن انسحاب جامعاتنا الأردنية من التصنيف لا يقلل من قيمتها، بل يرفعها، لأنها اختارت أن تقيس نفسها بمعاييرها الأصيلة لا بمعايير مستوردة.

ختامًا،
هذا القرار هو بداية جديدة، لا نهاية مسار.
إنه تذكير بأن الجامعة التي تملك شجاعة الانسحاب من تصنيفٍ ظالم، تملك أيضًا شجاعة بناء نموذج جديد للتفوق والريادة.
وذلك هو جوهر التعليم الحقيقي: أن تكون قائدًا، لا تابعًا؛ وأن تبني المعايير لا أن تُقاس بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى