على عتبة الوطن حين يختبر البرلمان وعيه”
د. عمّار محمد الرجوب

“الديمقراطية ليست مجرد أرقام ونسب تُستخدمها الأكثرية السياسية ضد الأقلية.”
جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين
في صباحٍ مفعمٍ برائحة التاريخ، يستيقظ الوطن كمن يعيد ترتيب ذاكرته. الأحد القادم ليس مجرد حدثٍ عابرٍ في أجندةٍ سياسية، بل طقسٌ وطنيّ يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، بين الصوت والصدى، بين القَسَم والضمير. مجلس النواب الأردني يقف اليوم على عتبةٍ جديدةٍ من التجربة، كأنه يستعد لامتحانٍ أخلاقيّ لا يفصل بين السياسة والوجدان، ولا بين الفكرة والإنسان.
في كل دورةٍ انتخابيةٍ داخلية، تعود القبة لتسأل نفسها سؤالاً جوهريًا: من يستحق أن يجلس على الكرسي الذي صُمّم لا ليتعالى، بل ليخدم؟ هذا السؤال هو مرآة الديمقراطية حين تتجرد من الشعارات لتواجه حقيقتها المجردة؛ أن الحكم أمانة، والكرسي امتحان.
تاريخ هذا المجلس هو رواية وطنٍ بأكمله، روايةٌ بدأت من الصفر، كتبها أجيالٌ من المخلصين الذين فهموا أن الديمقراطية ليست رفاهية سياسية، بل وسيلة بقاءٍ كريم. لم يكن البرلمان الأردني مؤسسةً تقليدية، بل نبضًا نابضًا في جسد الدولة، يشهد تحولاتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وثقافية، ويعكس صورة مجتمعٍ يحاول أن يتوازن فوق خيطٍ دقيقٍ من الاستقرار والحرية.
الإيجابيات فيه ليست تفصيلًا، بل حقيقةٌ تفرض احترامها: استمرار التجربة رغم العواصف، الحفاظ على الدور الرقابي رغم الضغوط، وفتح المجال أمام أصواتٍ جديدةٍ تعبّر عن نبض الشارع، لا عن رغبة السلطة. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في تحقيق معادلةٍ دقيقةٍ بين الصوت الشعبي والمصلحة الوطنية، بين الرغبة في المعارضة والمسؤولية في القرار.
لكن لا برلمان بلا ضوءٍ يفضح الغبار. فهناك ما يجب أن يُقال بصراحة: أحيانًا تُختزل العملية الديمقراطية في أشخاصٍ لا في مبادئ، وفي ولاءاتٍ ضيقةٍ تخنق روح التعدد، وكأنّ بعض الكراسي تفرض وصايتها على الوطن لا العكس. ومع ذلك، فإن النقد في حقيقته ليس عداءً، بل حبّ من نوعٍ آخر؛ حبٌّ يريد لهذا البيت أن يبقى بيتًا للأردنيين جميعًا لا نادياً للنخبة.
نصف الفقرة السياسية المطلوبة:
في ظل التحولات الإقليمية والضغوط الدولية، يبقى مجلس النواب الأردني خط الدفاع الأول عن ثوابت الدولة وهويتها السياسية الراسخة. دوره لا يتوقف عند التشريع، بل يمتد ليكون جسراً بين الإرادة الشعبية والرؤية الملكية في الحفاظ على أمن الوطن واستقراره. إنّ القيادة التي تتجاوب مع هموم المواطنين، وتُترجم الإصلاح إلى واقع يوميّ، هي وحدها التي ترتقي بالمؤسسة إلى مرتبة الثقة. العلم لا يُرفَع فقط بالتصريحات، بل بالواقع الذي يحركاته الحُكم والإرادة.
النظام الداخلي للمجلس، على ما يبدو، ليس مجرد لائحة تُدار بها الجلسات، بل منظومة قيم تُقاس بها الضمائر. فحين يدخل النائب إلى القاعة، يدخلها كمن يعبر عتبة التاريخ. تلك الورقة التي يضعها في الصندوق، وإن بدت صغيرة، تحمل وزن وطنٍ بأكمله ينتظر قراره. فإما أن تكون تعبيرًا عن وعيٍ جماعي، أو أن تُضاف إلى سلسلة الأوراق التي لم تغيّر شيئًا سوى الأسماء.
المشهد النيابيّ اليوم لا يحتمل الحياد الرمادي؛ إنه إمّا خطوة نحو النضج أو عودة إلى المربع الأول. وما بين الحلم والواقع، يبقى الأمل أن يتصدّر المشهد رجل دولةٍ يدرك أن القيادة ليست سلطة بل مسؤولية، وأن البرلمان ليس خشبةً للجدال بل منبرٌ لصناعة الفكرة. فالمستقبل لا يُصنع بالتصفيق، بل بوعيٍ يزن الكلمة بميزان الوطن.
الكرسي لا يمنح قيمته لمن يجلس عليه، بل يتشرّف بصاحب الموقف. وهنا، يصبح الفارق بين السياسي والحكيم واضحًا كالفجر؛ فالأول يبحث عن النفوذ، والثاني يبحث عن المعنى.
عندما تُرفع الأيدي للاقتراع، لا تُلقى فقط أوراقٌ داخل صندوقٍ، بل تُزرع الآمال في تربة الوطن التي تحتاج إلى من يسقيها بعمله وإخلاصه. إنه يومٌ لا يُحسب بالعدد، بل بالحكمة التي يستنطقها النواب، وبالوقت الذي يُعيدونه لصالح المواطن. إنّ انتخاب الرئيس والمكتب الدائم ليس لحظة تتجاوزها الصحف، بل جُرحٌ أو دفْعة للأمام في مسيرة الوطن. فلتُشرق شمسُ التوافق، ولتنهض إرادةُ الأردن كما تنهض مدينةٌ قد خلدت اسمها بالحكمة لا بالهيمنة. واليوم، حين يُكتب هذا الفصل، فلنسأل أنفسنا: هل اخترنا من يجسد صوتنا؟ أم من يحوّلنا إلى مجرد رقمٍ في قائمة؟ إن الوطن لا يحتاج إلى مزيدٍ من الأصوات، بل إلى مزيدٍ من الصدق، لأن الصدق وحده يحوّل كلمة «تمّ» في القاعة إلى فعلٍ يؤثر حقيقة في حياة الناس.
وهنا اقول
“ليس المجد أن تصل إلى الكرسي، بل أن تجعله يشهد أنك كنت أهلًا له.”
واختم بابيات من شعري
يا مجلسًا فيكَ الوعودُ مبثوثةٌ *** فاحفظ صدى الأجدادِ والأزمانِ
إنّ البلادَ أمانةٌ في راحتيكَ *** فكنْ على قدرِ العُلا والعرفانِ
وإذا علتْ أصواتُ جهلٍ عابثٍ *** فالعقلُ ميزانُ الملوكِ الجُنّانِ