قوة الاستقرار الدولية في غزة مشروع نفوذ أم مبادرة سلام
د . مهدي مبارك عبد الله
منذ الإعلان عن خطة ترامب لإنهاء حرب غزة تصاعد الجدل حول البند الخاص بإنشاء قوة الاستقرار الدولية التي يفترض فيها أن تنهي الفوضى وتعيد الأمن وتدعم الحكم المدني غير أن البعض يقول ان خلف هذا العنوان الهادئ تختبئ أجندة سياسية وأمنية معقدة تعيد رسم المشهد الفلسطيني بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل قبل أي اعتبار آخر وان مهامها المعلنة من تأمين الحدود الى مكافحة الإرهاب ودعم الشرطة الفلسطينية ليست سوى ستار يخفي هدفها الحقيقي المتمثل في تفكيك البنية العسكرية للمقاومة ونزع سلاحها وتغيير المعادلة السياسية في غزة من الداخل عبر هندسة أمنية جديدة تضمن لإسرائيل السيطرة المطلقة من وراء ستار دولي ناعم
فكرة انشاء القوة الدولية لم تكن وليدة اللحظة بل هي امتداد لمقترح قدمه توني بلير ثم تبناه ترامب ومستشاره جاريد كوشنر ضمن خطة من عشرين بندا أريد منها أن تعيد تشكيل الواقع الفلسطيني بالكامل فالقوة المقترحة ستضم شركاء عرب ودوليين وتشرف على تدريب قوة شرطية فلسطينية جديدة ونزع السلاح وتنسيق المساعدات وإعادة الإعمار غير أن غياب آلية واضحة للتفويض القانوني وآليات العمل جعل المشروع غامضا ومثيرا للريبة إذ لم تحدد واشنطن طبيعة وصلاحيات القوة ولا حدودها ما فتح الباب أمام قراءات متعددة وتفسيرات مختلفة ترى فيها أداة لإدارة الاحتلال وليس لإنهائه
عمل قوة الاستقرار الدولية في الاساس يفتقر إلى أي غطاء قانوني صلب من منظومة الأمم المتحدة إذ لم يصدر بشأنها تفويض من مجلس الأمن ولا قرار أممي يمنحها صفة القوات متعددة الجنسيات كما جرى في تجارب مشابهة في لبنان أو البوسنة أو تيمور الشرقية ما يجعلها عمليا خارج إطار الشرعية الدولية وتابعة لإرادة الدول الممولة والمشرفة عليها وخصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل وهذا الغياب القانوني يسهل التجاوزات الميدانية ويمنح الاحتلال غطاء شرعيا زائفا يمكنه من التحرك بحرية تحت ذريعة التنسيق مع القوة الدولية دون أن يتحمل أي مسؤولية قانونية عن أفعاله المستقبلية في غزة
المشروع إلى جانب البعد الأمني والسياسي يخفي أهدافا اقتصادية غير معلنة حيث يجري الحديث في الكواليس عن خطط لإدارة إعادة الإعمار عبر شركات غربية وإسرائيلية وأخرى مرتبطة ببعض الدول العربية المشاركة في التمويل وبما يضمن السيطرة على الموارد المحلية في غزة وتوجيهها وفق مصالح تلك القوى وهو ما يعني أن المشروع لن يعيد فقط تشكيل الخريطة الأمنية بل الاقتصادية أيضا حيث تصبح عملية الإعمار أداة ضغط سياسي وابتزاز مالي للفلسطينيين مع تحويل غزة إلى منطقة نفوذ اقتصادي مشروط يخضع لتوازنات السوق لا لحقوق الإنسان أو العدالة الاجتماعية المنشودة
الموقف الدولي من المشاركة في القوة يعكس حجم الشكوك حول النوايا الحقيقية وراء المشروع فإسرائيل سارعت إلى رفض مشاركة تركيا بحجة انحيازها للمقاومة ورفضها الحرب على غزة بينما تحفظ الأردن وعدة دول عربية عن المشاركة خشية أن ينظر إلى القوة باعتبارها امتدادا طبيعي للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة وهذا التوجس لم يأت من فراغ خصوصا وان المشروع برمته يجري دون مشاركة فلسطينية حقيقية وعدم وضوح في طبيعة الدور السياسي الذي ستؤديه هذه القوة ما يجعلها في نظر الكثيرين مجرد غطاء جديد للاحتلال يرتدي ثوب الشرعية الدولية
الملاحظ جليا ان المهام المعلنة لأهداف القوة مثل ضبط الحدود وتأمين المساعدات ودعم الشرطة المدنية تحمل أبعادا أعمق من ظاهرها فكلها تصب في اتجاه واحد هو نزع سلاح المقاومة وتفكيك قدراتها تحت عنوان إعادة الأمن والاستقرار وهنا يكمن جوهر الخطر حيث يتحول المشروع إلى أداة لتجريد الفلسطينيين من أدوات الدفاع عن أنفسهم بينما تبقي إسرائيل يدها الطولى في تحديد من يشارك ومن يستبعد ومن يعاقب لتظل القوة أداة طيعة في يدها بلا رقيب عليها
الحديث عن قيادة مصرية محتملة للقوة يضع القاهرة في موقع بالغ الحساسية حيث ستكون في قلب المخاطر السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تفرضها المرحلة فوجودها على رأس القوة يعني التعامل المباشر مع واقع ميداني معقد قد يورطها في صدامات مع فصائل المقاومة أو مع إسرائيل نفسها إن تجاوزت القوة الخطوط الحمراء فضلا عن تكلفها بأعباء مالية وأمنية إضافية في ظل أوضاعها الاقتصادية الصعبة واحتمال تدفق اللاجئين نحو سيناء كما أن إدارة مثل هذه القوة قد تجعل مصر في موقع الحارس لحدود إسرائيل أكثر من كونها راعية للأمن الفلسطيني وهو ما قد يفقدها الكثير من رصيدها التاريخي في دعم القضية الفلسطينية
التحركات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والمشاورات الجارية مع دول آسيوية مثل إندونيسيا وأذربيجان وباكستان تكشف أن المشروع ليس عملا إنسانيا بل عملية إعادة ترتيب شاملة للنفوذ في غزة فإقامة مركز تنسيق مدني عسكري بقيادة أمريكية يعني عمليا إدارة ما بعد الحرب وفق الرؤية الأمريكية الإسرائيلية دون تفويض فلسطيني أو أممي حقيقي وهو ما يخلق صيغة وصاية دولية مغلفة بخطاب الإغاثة والمساعدة
بالتدقيق يبدو واضحا إن قوة الاستقرار الدولية في غزة كما تطرح اليوم ليست مبادرة سلام بل مشروع لإعادة هندسة الوجود الفلسطيني سياسيا وأمنيا بما يخدم مصالح تل أبيب وواشنطن وهي احتلال بوجه جديد يجري تمريره عبر قنوات دبلوماسية وشعارات إنسانية براقة ولعل أخطر ما في الأمر أن الفلسطينيين قد يجدون أنفسهم بين مطرقة الاحتلال وسندان إدارة دولية تحدد مصيرهم دون مشاركتهم فيما يعاد تشكيل غزة كمنطقة نفوذ مشتركة تدار عن بعد وتفرغ من مقاومتها ومضمونها الوطني
في النهاية إن خطورة المشروع لا تكمن فقط في نتائجه الأمنية بل ايضا في تداعياته السياسية على المدى البعيد وهو يعيد إنتاج فكرة السلام المفروض الذي يطفئ جذوة النضال ويحول المقاومة إلى ظاهرة أمنية قابلة للتصفية لذلك فإن الوعي العربي والفلسطيني يجب أن يكون يقظا في مواجهة هذا التحول الجديد لأن ما يراد لغزة اليوم قد يراد غدا لبقية فلسطين وبعض الدول العربية المجاورة لها تحت عناوين جاذبة ومصطلحات براقة تخفي وراءها جوهر السيطرة والهيمنة والاحتلال
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]





