شرق أوسط في زمن التهدئة بين بكين وواشنطن
إلهام لي تشاو
حمل اللقاء الأخير بين الرئيسين الصيني والأمريكي مؤشرات على لحظة فارقة في التنافس الدولي؛ فبعد سنوات من الخطاب التصادمي، والرهان على الردع الاقتصادي، وتوسّع ساحات الاشتباك الجيوسياسي، تسعى القوتان الآن إلى رسم حدودٍ للصراع وفتح قنواتٍ لإدارة الخلاف. لا يعني ذلك نهاية الخصومة، بل بداية صيغة أكثر تعقيداً: تعايش صعب تحت سقف التنافس.
هذا التحول لا ينطلق من حسن النوايا بقدر ما يعكس إدراكاً براغماتياً: العالم لا يتحمل حرب استنزاف طويلة بين أكبر اقتصادين، وسلاسل التوريد ليست أدوات عقابية بلا تكلفة، والمجتمعات التي أنهكها التضخم لا تقبل ترف المعارك الهيكلية المفتوحة. ولذلك، يُعاد تعريف “المصلحة الوطنية” بما يسمح بالمزاوجة بين حماية الأمن الاستراتيجي والحفاظ على الحد الأدنى من التداخل الاقتصادي.
في الشرق الأوسط، يفتح هذا المسار نافذة نادرة لإعادة توزيع الأدوار. فالولايات المتحدة، التي خاضت على مدى عقود مشاريع لإعادة تشكيل الإقليم سياسيّاً واجتماعيّاً، تميل اليوم إلى حضور “إداري” يركّز على منع الانفجار أكثر مما يطمح إلى صناعة نموذج. الوجود العسكري باقٍ، لكن سقف الطموح انخفض، وتقدير الكلفة ارتفع، ومساحة المناورة أمام الحلفاء اتسعت.
بالتوازي، تتقدم الصين بخطى محسوبة، تدرك حساسية الجغرافيا وتتعامل مع التاريخ السياسي للمنطقة بعينٍ مفتوحة. حضورها لا يقوم على الفراغات ولا على خطاب “المنقذ”، بل على معادلة: تنمية، استقرار، شراكات طويلة الأمد، واحترام النسق المحلي دون اشتراطات أيديولوجية. وهو نهج يمنحها موطئ قدم، لكنه يضع عليها أيضاً مسؤولية فهم تعقيد الهوية والتحول الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة.
وسط هذين المسارين، تظهر المنطقة لاعباً فاعلاً لا مجرد ساحة. دول مثل السعودية والإمارات وقطر تعيد هندسة خياراتها: توازن بين القوى الكبرى، شروط واضحة للاستثمار والتكنولوجيا، دبلوماسية نشطة، وانفتاح على أسواق آسيا وأفريقيا، مع إدراك أن الأمن لم يعد قيمة تُمنح من الخارج، بل قدرة تُبنى في الداخل وتُدار عبر الإقليم.
ومع ذلك، لا تخلو المرحلة من مخاطر. تهدئة التنافس بين القوى الكبرى قد تكون ظرفية، والتوتر الكامن في النظام الدولي لم يُحلّ. كما قد يتحوّل سباق التكنولوجيا والطاقة إلى صراع جبهات داخل المنطقة إذا لم تُرسم خطوط حمراء تحمي السيادة واستقلال القرار.
التحدي الحقيقي أمام الشرق الأوسط ليس كيف يقترب من واشنطن أو بكين، بل كيف يضمن ألا يتحول مجدداً إلى ساحة اختبار أو ضغط. وبقدر ما تبدو اللحظة فرصة لتعزيز الذات، فهي أيضاً لحظة اختبار للقدرة على إنتاج رؤية مستقلة، تتجاوز الاعتماد على الخارج وتراهن على بناء عقد اجتماعي واقتصادي جديد.
في زمن “التهدئة المحسوبة”، تملك المنطقة فرصة لإعادة تعريف موقعها: ليس كجائزة في صراع الكبار، بل كفاعل يرسم ملامح نظام دولي أكثر توازناً، ويستعيد حقه في صياغة مستقبله بيده.





