هل اقتربت ساعة التطبيع بين إندونيسيا وإسرائيل من السر إلى العلن ؟
د . مهدي مبارك عبد الله
تبدو إندونيسيا اليوم وكأنها تفتح صفحة جديدة في تاريخ سياستها الخارجية بعد عقود من التمسك بالموقف المبدئي الداعم لفلسطين والرافض لأي علاقة مع إسرائيل إذ تتسرب من خلف الجدران الدبلوماسية إشارات غير مألوفة تعكس تحولا تدريجيا في التفكير الرسمي تجاه تل أبيب فبينما كانت جاكرتا حتى الأمس القريب تعتبر التطبيع خيانة للضمير الإسلامي تبدو الآن أكثر براغماتية في قراءة المشهد الدولي واقرب بالاستعدادات لفتح قنوات التواصل مع تل ابيب تحت لافتة الإنسانية والتعاون الدولي ومع انشغال العالم بوقف الحرب في غزة برزت الدولة الآسيوية الكبرى كلاعب سياسي طموح يسعى لإعادة تعريف موقعه بين المبدأ والمصلحة وبين التاريخ والواقع وواجبها الأخلاقي تجاه فلسطين وطموحها للانخراط في تحالفات جديدة قد تعيد رسم ملامح حضورها الإقليمي والدولي
بالرغم من تاريخها الطويل في دعم القضية الفلسطينية ورفضها القاطع لإقامة أي علاقة رسمية مع إسرائيل يبدو أن إندونيسيا اليوم تقف على مفترق طرق حساس ومغاير لما اعتادت عليه سياستها الخارجية إذ تتعالى الأصوات في المحافل الدولية حول اقتراب لحظة التطبيع بين جاكرتا وتل أبيب بعد سنوات من التمهيد الخفي والاتصالات السرية التي ظلت طي الكتمان منذ توقيع اتفاقيات أبراهام عام 2020 التي أطلقت موجة جديدة من التحالفات بين دول عربية وإسرائيل تحت رعاية واشنطن وجعلت من إندونيسيا هدفا استراتيجيا لتوسيع دائرة التطبيع نحو آسيا الإسلامية الكبرى
في الواقع يبدو أن التطورات السياسية والعسكرية التي شهدتها المنطقة منذ العدوان الإسرائيلي على غزة بين عامي 2023 و2025 قد فتحت الباب أمام تفكير إندونيسي جديد في التعاطي مع الملف الإسرائيلي حيث شهدنا مؤخرا مشاركة غير مسبوقة للرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو في القمم الدولية التي تناولت مستقبل قطاع غزة وخصوصا قمة شرم الشيخ التي حضرها زعماء من أكثر من عشرين دولة بينهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي لم يخف إعجابه بموقف سوبيانتو وتصريحاته التي انطوت على لهجة متصالحة تجاه إسرائيل حين أكد على ضرورة ضمان أمنها وسلامتها قبل أي سلام حقيقي في المنطقة كما أنهى خطابه بكلمة ( شالوم بالعبرية ) التي حملت رمزية كبيرة وأثارت عاصفة من الجدل في العديد من الأوساط الإسلامية
هذه الإشارات السياسية لم تأت من فراغ بل بدت وكأنها تمهيدا لخطوات محسوبة نحو امكانية فتح قنوات التواصل مع تل أبيب خاصة بعدما نقلته وسائل إعلام عبرية عن ترتيبات سرية لزيارة كان من المفترض أن يقوم بها سوبيانتو إلى إسرائيل منتصف أكتوبر 2025 قبل أن يتم نفيها رسميا إثر تسريب الخبر الذي إثارة استياء جاكرتا التي كانت تريد إبقاء التحركات طي السرية الكاملة حتى تنضج الظروف الدبلوماسية المناسبة وهذا التسريب كشف حجم التفاعل الإسرائيلي مع الفكرة ومدى الترقب الذي تبديه تل أبيب لأي فرصة لاختراق الجدار السياسي الذي ظلت إندونيسيا تمثله في وجه التطبيع
المثير هنا أن الحديث عن التقارب بين البلدين لم يأت في سياق منفصل عن التطورات المتعلقة بملف غزة بل ارتبط عضويا بخطط واشنطن وتل أبيب لإعادة تشكيل خريطة ما بعد الحرب في القطاع حيث طرحت إدارة ترامب فكرة تشكيل مجلس دولي انتقالي لإدارة غزة بمشاركة فلسطينية ودولية وكان من اللافت إدراج إندونيسيا ضمن الدول المرشحة للعب دور إنساني وأمني في هذا الإطار بما في ذلك استقبال جرحى الحرب واستضافة بعض سكان القطاع لفترات علاجية أو مؤقتة وهي خطوة أثارت في الداخل الإندونيسي مخاوف من أن تتحول إلى غطاء لتهجير فلسطينيين بشكل دائم عن أرضهم
الحكومة الإندونيسية بدورها حاولت تبرير مبادراتها بأنها ذات طابع إنساني بحت إلا أن معارضي التطبيع من العلماء والمفكرين والسياسيين رأوا فيها بداية لتطبيع عملي غير معلن حيث قال نائب رئيس مجلس العلماء الإندونيسي أنور عباس إن مثل هذه الخطوات تمنح إسرائيل مكاسب سياسية مجانية وتظهر جاكرتا وكأنها تسهم في تفريغ غزة من سكانها في وقت لا زالت فيه آلة الحرب الإسرائيلية تواصل جرائمها ضد المدنيين رغم وقف اطلاق النار فيما حذر نواب من أن أي تعاون إنساني يجب ألا يتحول إلى مدخل للتنازل عن الثوابت التاريخية والدينية لإندونيسيا
في المقابل هناك تيار قوي داخل المؤسسة الحاكمة الاندونيسية يرى أن الظروف الجيوسياسية والاقتصادية تفرض على جاكرتا إعادة تموضعها في العالم وأن الانفتاح على إسرائيل قد يحمل مكاسب ملموسة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والزراعة الذكية والدفاع والأمن السيبراني وهي قطاعات تتطلع إندونيسيا إلى تطويرها ضمن خطتها للتحول إلى قوة اقتصادية بارزة ضمن أكبر خمس اقتصادات عالمية خلال العقدين المقبلين وقد كشفت تقارير إسرائيلية عن تفاهمات أولية لدعم ترشيح إندونيسيا للانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مقابل إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وهو ما يمثل إغراءً سياسيا واقتصاديا يصعب تجاهله
لا شك بان تل أبيب تدرك أهمية إندونيسيا كجائزة رمزية واستراتيجية فهي أكبر دولة مسلمة من حيث عدد السكان وتتمتع بنفوذ واسع في منظمة التعاون الإسلامي وجنوب شرق آسيا ويعتبر نجاح إسرائيل في كسر الحاجز الإندونيسي إنجازا دبلوماسيا كبير يفوق في رمزيته ما تحقق مع بعض الدول العربية المشاركة في اتفاقيات أبراهام ولذلك تكثف إسرائيل جهودها في استثمار العلاقات الاقتصادية غير الرسمية والزيارات السياحية المحدودة والأنشطة الأكاديمية كجسور تواصل يمكن ان تمهد للتطبيع الكامل في المستقبل
من جانب آخر فإن موقف الشعب الإندونيسي يبقى العقبة الأبرز أمام أي خطوة رسمية نحو التطبيع فالمجتمع الإندونيسي بمكوناته الدينية والمدنية لا يزال يعتبر القضية الفلسطينية جزءا من عقيدته وهويته الوطنية وهناك رفض شعبي واسع لأي تقارب مع إسرائيل حيث يراه كثيرون خيانة لمبادئ التضامن الإسلامي التاريخي ومع ذلك فإن التحولات السياسية الداخلية وتراجع الخطاب الإسلامي المحافظ في الحياة العامة قد يتيح للحكومة مساحة مناورة أكبر في تسويق خطواتها الخارجية على أنها براغماتية وليست مبدئية
التفكير الجدي بالتطبيع في هذا التوقيت يبدو انعكاسا لتغير أولويات إندونيسيا وسعيها لتعزيز حضورها الدولي في ملفات الشرق الأوسط بما ينسجم مع طموحات رئيسها الذي يرى في السياسة الخارجية منصة لإبراز بلاده كقوة متوازنة بين الشرق والغرب وبين الإسلام والحداثة وربما يجد في بوابة إسرائيل طريقا إلى اعتراف أوسع بمكانة بلاده في المؤسسات الدولية كما أن التطبيع مع تل أبيب لا يمكن فصله عن الضغوط الأمريكية الرامية إلى توسيع إطار اتفاقيات أبراهام لتشمل أكبر عدد ممكن من الدول الإسلامية
مع أن الرئيس سوبيانتو لا يزال يربط علنا أي علاقة رسمية باعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية إلا أن مسار الأحداث يشير إلى مرونة متزايدة في الموقف الإندونيسي وإلى استعداد للقبول بصيغ انتقالية أو رمزية للتطبيع إذا ما تحقق تقدم نسبي في المسار السياسي الفلسطيني الإسرائيلي ومع كل ذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو ما إذا كانت إندونيسيا ستغامر بسمعتها الإسلامية وتاريخها الداعم لفلسطين مقابل مصالح اقتصادية وسياسية آنية أم أنها ستظل متمسكة بموقفها الأخلاقي التاريخي الرافض للتطبيع قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة
المشهد برمته على الارض يعكس صراعاً حادا بين المبدأ والمصلحة وبين ضغط الخارج وحساسية الداخل وبين طموح القيادة الجديدة ومخاوف الشارع المحافظ وما بين كل هذه التناقضات يظل الطريق إلى التطبيع محفوفاً بالجدل والضبابية وربما ليس بعيداً أن نرى تحوّلاً تدريجياً في مواقف جاكرتا خلال الشهور القادمة تحت لافتة الانفتاح الدبلوماسي والتعاون الإنساني إلى أن يتحول الأمر إلى اعتراف كامل متى ما اعتبر أن الكلفة الشعبية والسياسية قد أصبحت محتملة بالنسبة لصانعي القرار في الدولة الإسلامية الأكبر في العالم
اخيرا : التطبيع إن حدث لن يكون مجرد خطوة سياسية عابرة بل نقطة تحول أخلاقية في هوية دولة طالما تغنت بنصرة الحق والمظلومين لكن يبدو انه حين تميل كفة المصالح على حساب المبادئ ( يضيع جوهر الرسالة ) التي جعلت من إندونيسيا صوتاً إسلامياً حراً في عالمٍ تتنازعه الصفقات والمصالح من دعم فلسطين إلى مصافحة تل أبيب في التحول الإندونيسي المثير تحت اي غطاء إنساني وسياسي
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]


