واشنطن تفتح أبوابها للشرع : هل تقترب دمشق من مسار التطبيع مع إسرائيل ؟
د . مهدي مبارك عبد الله
في عالم تتقاطع فيه المصالح السياسية والاقتصادية وتتسابق فيه القوى الإقليمية والدولية على النفوذ تصل القرارات الوطنية إلى مفترق طرق يحمل في طياته المخاطر والفرص في آن واحد وإن زيارة رئيس الحكومة المؤقتة السورية أحمد الشرع إلى واشنطن ليست مجرد خطوة دبلوماسية عابرة بل هي اختبار مصيري لمسار سوريا السياسي والاقتصادي والأمني على المستويين الداخلي والخارجي وتحمل في رمزيتها بعداً استراتيجياً يضع سوريا أمام سؤال مركزي هل ستنجح في صياغة شروطها أم ستدخل في فخ التطبيع المهيكل وفق الشروط والمصالح الأميركي الإسرائيلية المجحفة
صباح يوم الأحد 9 / 11 / 2025 وصل رئيس الحكومة المؤقتة السورية أحمد الشرع إلى واشنطن في زيارة رسمية تُعد الأولى من نوعها لرئيس سوري منذ عقود والثانية له إلى الولايات المتحدة بعد مشاركته في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وقد جاءت الزيارة بهدف بحث أفق إعادة العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على دمشق وكذلك لاستكشاف إمكانيات إدراج سوريا ضمن مسار التطبيع مع إسرائيل الذي تقوده واشنطن في إطار ما يُعرف باتفاقيات الإبراهيم مع التركيز على تقييم الوضع الاقتصادي والسياسي لسوريا بعد سنوات من العزلة والترتيبات الأمنية الممكنة مع إسرائيل وفرص إعادة الإعمار وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين
هذه الزيارة تختلف عن سابقتها حيث اقتصر دوره في نيويورك على خطابات عامة بينما تحمل هذه الزيارة بعداً مباشراً للتفاوض مع ترامب حول ترتيبات اقتصادية وأمنية وسياسية مع إشارات واضحة إلى ربط أي رفع للعقوبات بمستوى الانخراط في مسيرة التطبيع ما يجعلها أكثر حساسية واستراتيجية فهي ليست مجرد زيارة بروتوكولية بل عملية إعادة ضبط للعلاقة مع المحيط الخارجي وإسرائيل تحديداً
على الصعيد الداخلي يظل موقف الشعب السوري والبرلمان محورياً والتاريخ أثبت أن أي خطوة تُفهم على أنها تنازل عن الحقوق الوطنية وعلى رأسها قضية الجولان ستقابل برفض شعبي واسع النظام السوري السابق بقيادة الأسد كان متحفظاً وخائفاً من ردود فعل الشارع بينما النظام الحالي بقيادة الشرع يبدو أكثر جرأة في استكشاف هذا المسار لكنه يدرك أنه لا يمكن تجاوز الإرادة الشعبية أو البرلمانية في اتخاذ القرار النهائي الشرع نفسه أكد أن سوريا ليست كغيرها من دول الإبراهيم وأن وجود أراضٍ محتلة يجعل أي تطبيع مرتبطاً حصراً بحل قضية الجولان بشكل واضح ومنصف
بعض المكاسب المحتملة التي قد تجنيها سوريا من الإقدام على هذه الخطورة تشمل رفع العقوبات الاقتصادية وتدفق الاستثمارات الخليجية والأوروبية والأميركية وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار وتحريك الدبلوماسية السورية بينما تبقى المخاطر أكبر وتشمل التنازل عن مطالب الجولان والالتزامات الأمنية مع إسرائيل ووجود محتمل للقوات الأميركية وإثارة غضب شعبي قد يعيد البلاد إلى مربع الانقسام الداخلي أما بخصوص القضية الفلسطينية فتظل محكاً أساسياً لا يمكن تجاوزه إذ من المرجح أن تضع دمشق قبل أي تحرك شروط واضحة تشمل إقامة دولة فلسطينية مستقلة وانسحاب إسرائيل من الجولان ووقف الضربات الجوية في الجنوب السوري والحفاظ على موقعها في محور المقاومة بينما يسعى الجانب الإسرائيلي لضمانات أمنية أشمل تجعل من جنوب سوريا منطقة تسوية خاضعة للمراقبة الأميركية أو الإسرائيلية
الخيارات أمام دمشق تتوزع على ثلاثة سيناريوهات الأول هو التطبيع المشروط الذي يمنح سوريا فرصة رفع العقوبات واستثمارات ملموسة مقابل ترتيبات محدودة مع الحفاظ على سيادتها وموقعها في القضية الفلسطينية الثاني التطبيع السريع الذي قد يجلب أموالاً واستثمارات فورية لكنه مشروط بالتزامات أمنية وسياسية قاسية قد تفقد دمشق أوراق قوتها وتثير رفضاً داخلياً واسعاً أما الثالث فهو رفض التطبيع والدخول في مسار وطني مستقل يحافظ على الثوابت والسيادة ولو على حساب الإغراءات الاقتصادية قصيرة المدى
على النظام السوري أن يوازن بين المكاسب الاقتصادية والاستقرار الداخلي وبين كرامة الدولة وحقوق شعبها وأن يضع خطة وطنية واضحة قبل أي خطوة فالتسرع قد يتحوّل إلى شرك سياسي يربط سوريا بقيود طويلة الأمد ويحرمها من السيطرة على مستقبلها في المقابل الشعب السوري يريد أن يرى تحسناً حقيقياً وعاجلاً في حياته اليومية واسترجاع حقوقه ولن يرضى بأن تكون بلاده طرفاً يُستدرج إلى اتفاقات تُصاغ خارج إرادته وتؤثر على مستقبله
بعد التغيرات الكبيرة التي شهدتها سوريا تقلص الدور الفعلي لكل من روسيا وإيران على الأرض السورية وموسكو رغم تمسكها ببعض القواعد العسكرية باتت تتعامل مع سوريا ضمن حسابات ضيقة لمصالحها الخاصة دون التحكم الكامل بالمسار السياسي وبالمثل تقلصت قدرة إيران على التأثير المباشر ليصبح حضورها أكثر رمزية منه فعلياً هذا الواقع منح دمشق مجالاً أكبر لصياغة خياراتها الخاصة في مسار التطبيع بشرط الموازنة بين المصالح الاقتصادية والضغط الداخلي دون الاعتماد على حلفاء سابقين لم تعد لهم القدرة على فرض الخيارات
مع كل هذه التداخلات يبقى السؤال الأكبر مطروحاً هل ستقدم سوريا على خطوة التطبيع تحت ضغط الفرص الاقتصادية والعرض الأميركي أم ستحتفظ بخيارها الاستراتيجي وتضع شروطها الواضحة على طاولة السيناريوهات المحتملة التطبيع السريع قد يفتح الطريق أمام تدفق أموال الخليج وأوروبا والولايات المتحدة لكنه قد يقوض السيادة ويخلق استياءً شعبياً وسياسياً التطبيع المشروط والمُخطط قد يمنح دمشق مكاسب حقيقية دون أن تخسر أوراق قوتها ويُبقي على خط التفاوض المفتوح بشأن الجولان وفلسطين أما الرفض الكامل فقد يعيد سوريا إلى عزلة اقتصادية ودبلوماسية لكنه يحمي سيادتها وموقعها في محور المقاومة ويؤكّد موقفها التاريخي تجاه القضية الفلسطينية
هنالك توقعات جدية من امكانية دخول سوريا مرحلة تفاوضية نحو التطبيع مع إسرائيل مدعومة من حوافز أميركية واقتصادية وما يدعم فكرة الاقتراب السوري من فخ التطبيع أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن بعد لقائه رئيس الحكومة السورية المؤقتة أحمد الشرع أن واشنطن تدرس تطبيع العلاقات مع دمشق وأن رفع العقوبات الأميركية بات مطروحاً وسوريا بدورها كانت قد أعلنت سابقاً عن محادثات غير مباشرة مع إسرائيل مؤكدة انفتاحها بشروط على التطبيع أو المشاركة في اتفاقات مثل اتفاقيات الإبراهيم
في المقابل ما يحول دون القول كليا إن سوريا وقعت في شراك التطبيع حتى الآن هو أن سوريا رسمياً استبعدت الانضمام إلى اتفاقيات الإبراهيم بنفس الصيغة التي اتبعتها الإمارات والبحرين بحجة أن لديها أرضاً محتلة وتاريخاً للصراع مع إسرائيل بعض المصادر السورية أوضحت أن الحديث عن التطبيع لا يعني توقيعاً نهائياً بل إطار مفاوضات أولي والموضوع لا يزال مبكّراً لاتخاذ قرار نهائي ما يجعل الطريق إلى التطبيع الكامل أكثر تعقيداً
في خاتمة هذا المسار يظل التطبيع وسيلة وليس هدفاً وان السعي نحو مصالح حقيقية يجب أن يصاغ عبر رؤية وطنية واضحة وشروط دقيقة ووعي داخلي شعبي وبرلماني مع إدراك أن أي خطوة غير محسوبة قد تمنح أكثر مما تأخذ بأي حال يجب ألا يكون التطبيع السوري مع إسرائيل هدية مجانية بل معركة دقيقة بين المصالح الوطنية والضغوط الإقليمية والدولية وكل خطوة غير محسوبة قد تحول سوريا من لاعب مستقل إلى ساحة نفوذ جديدة أما التمهّل ووضع الشروط بوضوح فهو وحده الكفيل بأن تدخل سوريا أي مسار تفاوضي وفق رؤيتها ومصالحها الوطنية لا وفق جدول يُرسم لها في البيت الأبيض وبين أسطر الوعود الأميركية
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]



