«جلالة الملك عبد الله الثاني المعظم: حين يصنع القائدُ مسارَ الأمة بوعيٍ يعبر العصور»
د. عمّار محمد الرجوب
في زمنٍ تتشابك فيه المصالح وتضيع فيه البوصلة بين ضجيج القوى وصمت الشعوب، يمضي جلالة الملك عبد الله الثاني المعظم في سلسلة من الرحلات التي لا تشبه زيارات القادة التقليدية؛ بل تشبه بناء عقل دولةٍ تعرف ماذا تريد، وكيف تضع خطواتها، ومن أين تُعيد صياغة موقعها في عالمٍ يتغيّر كل لحظة. هذه التحركات ليست بروتوكولاً، وإنما استراتيجية تُكتب بالفعل، لا بالشعارات، وبالقدرة لا بالاستعراض.
السياسة في هذا الفعل ليست آلةً لإرضاء الآخرين، بل وسيلة لإعادة تموضع الأردن؛ ليكون شريكاً فاعلاً في صناعة القرار لا مجرد رقم في هوامش الدول. الذهاب شرقاً وغرباً، إلى دول آسيوية وأخرى ذات ثقل دولي، ليس بحثاً عن حضورٍ عابر، بل تثبيتٌ لمعادلة: أن الأردن دولة صغيرة في المساحة… كبيرة في الرسالة، وأن التوازن الذي يقوده جلالته هو درع السيادة ورافعة المكانة، وإعلانٌ صريح بأن صغر الجغرافيا لا يعني صغر الدور ولا هشاشة الوزن.
اقتصادياً، تفتح هذه الزيارات محاور إنتاج جديدة تُخفّف عبء السوق المحلي، وتخلق جسوراً تقود إلى استثمارات في التكنولوجيا، والصناعة، والطاقة المستدامة، والقطاع الغذائي، وسلاسل التوريد؛ ما يعني فرص عمل حقيقية، ونقل معرفة، وتوسيع البنية الإنتاجية الوطنية. ليست هذه شراكات للزينة؛ بل لبناء نموذج يمنح الشباب منصة حقيقية ليبدأوا لا ليهاجروا. وهنا تحديداً يبدأ الأثر المباشر على الأردنيين: فسوقٌ ينفتح، وشراكاتٌ تتوسع، ومواردٌ تتدفق، تعني حياةً أفضل، وتخفيفاً للأعباء، ونَفَساً اقتصادياً يدركه الناس في تفاصيل يومهم، لا في نشرات الأخبار فقط.
وفي بعدها الإيديولوجي، ترسخ هذه التحركات صورة الأردن التي يؤمن بها جلالته: دولة تنحاز للعقل، للحكمة، للاعتدال، وللكرامة الإنسانية. دولة لا تشتري الشرعية من الخارج، ولا تبيع مبادئها لأجل مكسبٍ عابر، بل تقدم للعالم درساً في أنّ القوة الأخلاقية يمكن أن تكون أداة سياسية نافذة، وأن الموقف الصادق يخلق احتراماً يفوق ما تصنعه الصفقات الباردة.
أما في بعدها الأمني والاستراتيجي، فإن هذه التحركات تحيط الأردن بشبكة أمان ناعمة؛ فهي تزيد من ثقة الشركاء الدوليين، وتقوّي الموقف التفاوضي، وتمنح المملكة قدرة على امتصاص التوترات الإقليمية. الأمن اليوم ليس حدوداً فقط، بل علاقات، وصداقات، ووزنٌ دوليّ. جلالة الملك، بحكمته وقراءته الدقيقة للمشهد العالمي، يرفع قيمة الأردن في كل جلسة، وكل لقاء، وكل خطاب، وكأنما يعيد رسم الخريطة لصالح وطنه بهدوءٍ لا يحتاج إلى ضجيج.
أثر ذلك على الداخل الأردني يظهر في ثقة الناس وتماسك وعيهم. فالدولة التي تتحرك تُشعر شعبها بأنّها تقاتل من أجله، لا تنتظر مصيره. الزيارات، وإن بدت للبعض مشاهد خارجية، إلا أنها تبث في الداخل شعوراً بأننا لسنا بلد المتفرجين، بل بلد اللاعبين. وأنّ القادم يمكن أن يكون أوسع وأعمق إذا استمر البناء على هذا النهج الواثق الذي يجعل المواطن شريكاً في كرة الثلج الصاعدة، لا متفرجاً على جبلها البعيد.
وفي العمق الفلسفي لكل حركة يقودها جلالة الملك، يتبدّى لنا معنى أبعد من السياسة والاقتصاد؛ معنى يخصّ قدرة الإنسان على أن يواجه زمنه دون أن يفقد جوهره. فالأمم، كما يقول الحكماء، لا تنهض بالقرارات وحدها، بل بالوعي الذي يشبه ضوءًا داخليًا لا يُرى ولكنه يقود. وحين يتحرك جلالته في العالم، فإنّه لا يحمل خارطة دولة فقط، بل يحمل سؤالًا أكبر: كيف يمكن لأمة صغيرة أن تصنع لنفسها معنى في عالمٍ يبتلع الضعفاء؟ وكيف يبقى الإنسان حجر الأساس مهما تغيرت بنية السياسة، ومهما تبدلت قواعد القوة؟ تلك الحركة التي تجمع بين الحكمة والواقعية تذكرنا بأن الدولة ليست جغرافيا فقط، بل روحٌ لا تستسلم، وأن القيادة ليست منصبًا، بل رحلةٌ من البحث الدائم عن الطريق الأصدق، حتى لو كان الطريق محفوفًا بالعتمة. فالحالمون وحدهم لا يبنون دولًا، والواقعيون وحدهم لا يصنعون أملًا… ولكن حين يجتمع الحلم بالوعي، تولد أمة تعرف كيف تقف، وكيف تعبر، وكيف تواصل السير دون أن ينكسر ضوءها.
وفي قلب هذا المشهد، أضع مقولتي التي تلخص ما نعاينه من قيادة جلالته:
«وأقول أنا: إنّ أخطر ما تواجهه الأمم ليس أن يُكذَّب تاريخها، بل أن تُخدع رؤيتها؛ فمن خان بصيرته ضلّ، ولو حمل ألف خريطة بين يديه.»
وفي هذا السرد، لا حاجة للمديح المباشر؛ فالفعل نفسه شهادة، والنتائج وحدها تتحدث. الأردن اليوم يصنع لنفسه مساحةً جديدة، ويمنح أبناءه مكاناً في الغد بفضل قيادة تفكر بعقل الدولة لا بهواجس اللحظة. هكذا تُبنى الأوطان: بالاستبصار، وبالعمل، وبقائد يقرأ الدنيا كما يقرأ الجندي جبهته.
ومن شعري اقول:
خطوتكمْ يا مليكُ تُقيمُ للأرضِ ميزاناً
وترفعُ في سماءِ الحكمِ للعربِ بُرهاناً
وفي مسيرِكمُ الأردنُّ يزهو رايةً حُرّةً
تُضيءُ الليلَ، لا خوفاً… وتستقبلُ إمكاناً





