منتج سياحي أردني صاعد يشكل فرصة لجذب سياح العالم

كتب أ.د. محمد الفرجات

تعد سياحة المسير في الأردن واحدة من أسرع المنتجات السياحية نموًا خلال العقد الأخير، وهي اليوم تتجاوز كونها نشاطًا ترفيهيًا لتصبح أداة تنموية واقتصادية وبيئية تعيد رسم صورة الأردن عالميًا. فبين أقصى الشمال في أم قيس وأعماق الجنوب في وادي رم والعقبة، تتعاقب جغرافيات متنوعة تكاد تختصر العالم في مساحة صغيرة، وتمنح المملكة قدرة فريدة على تقديم مسارات غنية بالتجربة والطبيعة والتاريخ.

أولًا: سياحة المسير… سياحة التجربة العميقة

ينتمي هذا النوع من السياحة إلى فئة السياحة البيئية والمغامرة، ويقوم على الاندماج المباشر مع الطبيعة وعيش تفاصيل المكان ببطء ووعي. وهو من أكثر الأنماط طلبًا عالميًا، لقدرته على إيجاد علاقة روحية وثقافية بين الزائر والبيئة المحلية، بما يشمل القرى الريفية والعادات الغذائية والتراث الحي.

ثانيًا: الأردن… فسيفساء تضاريس صنعت مسارات عالمية

يمتلك الأردن تنوعًا طبيعيًا استثنائيًا يُعد العمود الفقري لازدهار سياحة المسير فيه:

حفرة الانهدام من وادي عربة إلى البحر الميت: تضاريس حادة، أودية مائية، وأدنى نقطة على الأرض.

جبال الشراه بين الطفيلة والبتراء: ارتفاعات باردة نسبيًا، جبال شاهقة، ومسارات وعرة تجذب المغامرين.

الهضبة الشرقية: صحراء واسعة ومسارات طويلة مخصصة لرحلات متعددة الأيام.

غور الأردن: بيئة شبه استوائية، غابات غورية، وأجواء دافئة في الشتاء.

شمال الأردن (عجلون وجرش): غابات كثيفة وبيئة رطبة بطابع قريب من الجغرافيا المتوسطية الأوروبية.

هذا التنوع يتيح للسائح الانتقال بين مناخ وآخر خلال ساعة واحدة فقط.

ثالثًا: المسارات الوطنية والعالمية… سردية المكان

1. مسار الأردن (Jordan Trail)

أيقونة سياحة المسير في المملكة. يمتد 650 كم عبر 75 قرية ومدينة، وصُنف ضمن أفضل المسارات الطويلة في العالم، مقسمًا إلى 8 مقاطع تغطي الغابات والجبال والصحاري.

2. درب الحديد – Iron Age Trail

مسار ثقافي–أثري يسلط الضوء على تاريخ المؤابيين والأدوميين والأنباط.

3. مسارات البتراء – فينان – وادي رم

من أشهرها عالميًا، حيث بات مسار Dana to Petra من بين أبرز المسارات في مجلات السفر العالمية.

4. مسارات عجلون والغور الشمالي

مثل “غابات برقش – وادي الطيور” و”اشتفينا – مار إلياس”، وهي الأكثر جذبًا للجامعات والفرق المحلية.

رابعًا: القيمة الاقتصادية… سائح يمشي لكنه ينفق ماليا…

يبلغ إنفاق زائر المسير عالميًا ثلاثة أضعاف السائح التقليدي، لأنه:

يقيم في القرى لليلة أو ليلتين.

يشتري الطعام المحلي.

يوظف الأدلاء المحليين.

وفي الأردن تقدر مساهمة هذا النمط بـ عشرات الملايين سنويًا، وتشغيل آلاف الأدلاء، وتحفيز اقتصاد صغير–متوسط الحجم يشمل الضيافة الريفية، المطاعم المنزلية، نقاط بيع المنتجات المحلية، والمخيمات.

خامسًا: أثر اجتماعي وتنموي مباشر

لا يمكن لسياحة المسير أن تزدهر دون المجتمع المحلي، وهي في الأردن تحقق مكاسب بارزة:

إعادة إحياء القرى المهجورة.

توفير فرص عمل للشباب والنساء (أدلاء، ضيافة منزلية، مطابخ ريفية).

تعزيز المنتجات التراثية مثل زيت الزيتون والدبس والخبز التقليدي والعسل والأعشاب.

ترسيخ الوعي البيئي والانتماء للمكان.

سادسًا: عناصر الجذب لهواة المسير

ما يجعل الأردن محجًا لعشاق المشي ليس الجغرافيا فحسب، بل منظومة متكاملة من عوامل الجذب:

مناخ متنوع يتبدل بسرعة بين الجبل والغور والصحراء.

تراكم أثري فريد: أم قيس، جرش، أم الرصاص، الشراه، البتراء، وادي رم.

حياة برية تضم الوعل والطيور المهاجرة والنباتات الطبية.

تضاريس درامية مثل وادي الموجب والهِيدان والأودية الجميلة التي تعد موائل طبيعية للأحياء والنباتات وعيون المياه.

سابعًا: بنية تحتية في تطور

رغم حداثة القطاع، إلا أن الأردن قطع خطوات مهمة:

تجهيز نقاط استراحة على مسار الأردن.

تطوير مراكز زوار في المحميات.

خرائط ومسارات مخصصة على تطبيقات GPS.

أدلاء معتمدون بالتعاون مع وزارة السياحة والجمعية الملكية لحماية الطبيعة.

مبادرات ضيافة ريفية في دلاغة، ضانا، القادسية، غرندل، فينان، عجلون، برقش، وادي موسى، ورم.

ثامنًا: تحديات قائمة

ورغم القوة الجاذبة، تواجه سياحة المسير في الأردن مجموعة من التحديات:

ضعف التسويق العالمي.

نقص البنية التحتية في بعض المناطق (دورات مياه، ظل، إسعاف).

غياب سياسة وطنية واضحة للمسارات.

تهديد الزحف العمراني لبعض المسارات.

تعدد المرجعيات وتشتت الجهود.

تفاوت خبرات الأدلاء.

مخاطر الأودية الموسمية.

تاسعًا: فرص هائلة تنتظر الاستثمار

يمتلك الأردن فرصة ليصبح منصة عالمية للمسارات الدرامية عبر:

دمج المسارات بمنتجات زراعية (محطات تذوق زيتون، زعتر، عسل).

تطوير مسارات ليلية فلكية في وادي رم والحميمة.

إنشاء شبكة مسارات للدرّاجات الجبلية.

عقد شراكات عالمية مع مجلات وشركات مغامرة.

تطوير مسارات جديدة في الحميمة وربطها بفينان–رم.

إدخال المسارات في مقررات الطلبة الجامعيين كتدريب عملي.

عاشرًا: أنواع المسارات في الأردن

قصيرة (3–5 كم): مناسبة للعائلات، مثل الهيدان والرميمين.

متوسطة (7–15 كم): مناسبة للفرق الشبابية، مثل اشتفينا – مار إلياس.

طويلة (20–30 كم): تشمل التخييم، وتستقطب المغامرين.

متعددة الأيام (40–100 كم): مثل Dana – Petra وفينان – رم، وهي الأعلى إنفاقًا وجودة.

حادي عشر: المسارات كأداة لحماية البيئة

أثبتت التجربة أن المسارات ليست مجرد سياحة، بل وسيلة للحفاظ على الطبيعة:

رفع الوعي البيئي لدى الزوار.

مراقبة التنوع الحيوي وتوثيق الأنواع المهددة.

الحد من الاعتداءات البيئية داخل المحميات.

تحويل المجتمعات المحلية إلى شركاء في الحماية.

ثاني عشر: توصيات عملية لتعزيز النمو:
لتمكين الأردن من حصد مكاسب هذا القطاع الواعد، يُوصى بما يلي:

إعداد خطة وطنية شاملة للمسارات مرتبطة بالمحافظات.

إطلاق منصة رقمية موحدة للمسارات والأدلاء والتصاريح والحجوزات.

تمويل مشاريع صغيرة على المسارات (قهوة، بيوت ضيافة، متاجر حرفية).

توسيع المسارات في الجنوب بين الحميمة – دلاغة – بير مذكور.

تدريب 200 دليل محلي خلال 3 سنوات.

إنشاء وحدة إنقاذ واستجابة سريعة للمسارات.

ربط المسارات بالسياحة الثقافية عبر قصص المكان والأساطير والتاريخ.

سياحة المسير في الأردن ليست هواية عابرة، بل قطاع واعد قادر على تنويع الاقتصاد، وتمكين المجتمعات، وحماية الطبيعة، وبناء علامة وطنية قوية تستحق أن تكون في صدارة المنتجات السياحية للأردن. فالأرض التي جمعت الجبل والغابة والصحراء والغور في مساحة صغيرة، تستحق أن تُقدَّم للعالم كأحد أجمل وجهات المسير، وأكثرها تنوعًا وإلهامًا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى